"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب
التأويل للشيخ البحراني نموذجاً"
بقلم : الاستاذ كاظم الخليفة
[١]
المقدمة:
تتفق القراءات الحديثة للقرآن الكريم في مجملها على
الوقوف بالحدث التاريخي عندما جمع عثمان بن عفان القرآن الكريم وحصره في "مصحف". ذلك العمل يفهم منه أنه جمد النص القرآني على قراءة واحدة، بينما كان أفق
القراءة قبله مفتوحاً. فيروي جلال الدين
السيوطي، أن عبدالله ابن مسعود وهو أحد كتبة الوحي كان لا يرى ضيراً وهو يقرأ
القرآن أو يُقرئه لغيره، أن يبدل كلمة بأخرى. يقول السيوطي: ((وكان ابن مسعود يقرأ
{... للذين آمنوا انظرونا}، أمهلونا أخرونا... وأنه أقرأ رجلاً: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم}. فقال الرجل: طعام اليتيم، فردها عليه فلم يستقم بها لسانه. فقال: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال: نعم. قال: فافعل)).
الشيخ أحمد البحراني في كتابه التأويل، يتفق مع
أغلب الحداثيين العرب في وجوب إعادة انفتاح النص على القارئ، وليكون قابلاً
للقراءات المختلفة، بل يمضي أبعد من ذلك في عملية دمج معاني آيتين وليخرج بنص جديد
في آية من تأليفه كما هو المثال التالي:
((قوله تعالى: {الذين آمنو ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} حين نرجعها
إلى الآية القرآنية النظيرة: {إن الشرك لظلم
عظيم}، يتضح أن الظلم في الآية الأولى يؤول إلى "الشرك" في الآية الثانية،
وبناء على ذلك يمكن القراءة بالإبدال: [الذين آمنو ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن]. فهذه الآية الناتجة عن التأليف بين الآيتين
تأليفاً جزئيا، يمكن إثبات مصداقيتها بالرجوع إلى الآيات النظيرة لها في القرآن..)).
فتقنية التأليف بين الآيات التي يستخدمها الشيخ
أحمد البحراني، هي من وحي الآلية التي صممها من أجل تثوير النص القرآني وجعله وحي
يتنزل كل حين، وهي تقنية التأويل.
في الحلقات المقبلة نحاول إلقاء الضوء على تلك
الآلية ومفهوم نزول القرآن بأحرف سبعة.
للحديث بقية،،،
٢٣ ابريل ٠٧:٢٢ - بوعلي الخليفة: هي قراءة انطباعية على الكتاب مباشرة من أجل
إيضاح منهج الشيخ وليست قراءة نقدية. بالطبع الاستاذ سلمان هو فارس في مجاله
[٢]
"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب
التأويل للشيخ البحراني نموذجاً"
في مقدمته للكتاب، يتحدث الشيخ أحمد البحراني عن
فكرة الكتاب، وهو تسائل بدأ عن مفهوم الحقيقة الدينية من منطلق كون الانسان
مسؤولاً عليه تحمل دوره في الحياة عن قناعة، لا عن تقليد أعمى، كما يقول الشيخ. وكانت البداية عن التعرف على الدلالات التي تختزنها
رمزية أفعال الصلاة وأذكارها، فوجد حينها أن المعاني العميقة للصلاة تكشفها
الأحاديث، بينما البحوث الفقهية تتناول فقط الأفعال والأذكار بشروط معينة لا تلامس
الروح وتجعلها شكلية فارغة. وعندما نظر إلى باقي
الشعائر والعبادات وجدها لا تتعدى هذا المفهوم أيضاً. لذلك قرر دراسة أصول الدين وقراءته قراءة متعمقة،
بالاضافة إلى رؤية رآها في المنام. لذلك أتى هذا الكتاب، ولتصبح القراءة على القرآن الكريم بمبدأ التأويل هي
طريقته في استنباط العقيدة والفقه معاً.
من مفهوم التأويل بمعنى "الأحرف السبعة" التي نزل القرآن الكريم بها، ينطلق البحراني
في استلهام معنى حركيّة النص وقابليته للقراءات المتعددة (إن فكرة نزول القرآن على سبعة أحرف تعني أن القرآن
الذي نزل به جِبْرِيل ، نص قابل لأن يقرأ بعدة قراءات غير قابلة للحصر، وقد عبر عن
تلك القابلية بالرقم سبعة، فالسبعة ومضاعفاتها ترمز عند العرب إلى الكثرة).
مفهوم التأويل:
يعرف الشيخ البحراني التأويل بأنه تفسير الآية بالآية،
عن طريق إلحاق المتشابهة بالمحكمة، بجامع التشابه (التماثل) القائم بينهما. حيث أن عملية التأويل التي تتم فيها إحالة الآية
المستفهم عنها، إلى الآية المجيبة عن الاستفهام، لتفسر آيات القرآن بعضها بعضا، في
عملية عبور من الظاهر المتسائل إلى الباطن المجيب على التساؤل، لينشأ عن ذلك حوار
فيه القارئ يسأل والقرآن يجيب.
للحديث بقية،،،
[٣]
"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب
التأويل للشيخ البحراني نموذجاً"
التأويل ونزول القرآن على سبعة أحرف:
يعتبر الشيخ البحراني التأويل بأنه عملية استنطاق
النص وهو قادر على إعادة بناء امتدادات النص، بإعادة تشكيل العلاقات القائمة بين
الآيات، بتحريك تلك المكونات في عمليات اتصال وانفصال لا حصر لها.
فعندما يقول الوحي على لسان الرسول ((إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)) فالمسلم كبشر يماثل الرسول ويشاركه في ظاهرة
الوحي بالمفهوم التأويلي.
ثم يقسم الشيخ البحراني النص على قسمين، حيث يرى
بأن القسم الأول هو الذي قراءته منجزة ومقفلة لأنه أتى في مواقف معينة، بينما بقية
النصوص القرآنية التي لم يرد فيها أي سبب للنزول، فتكون مفتوحة وقابلة للقراءة
الجديدة كل حين، وهذا ما يلائم مفهوم الأحرف السبعة
فمقولة الرسول »إن القرآن نزل على سبعة أحرف، بأیھا قرأت أصبت« وھذا النزول یكفله تحریك النص تأویلاً، وھي الحركة
التي تسترشد بالقرآن ذاته، فینتج بھا نصّه، بحیث تصبح آیات وكلمات نصّه في ظلھا
غیر قابلة للنفاد، كما قال تعالى: (لو كان البحر مداداً
لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً)، ولیصبح القرآن على ضوء القدرة الذاتیة
التي ینتج بھا نصه، قادراً على استیعاب كل الوقائع،
فلكل واقعة آیات تتناولھا بالبیان التفصیلي.
ولما كانت الآیات القرآنیة متقلبة الوجوه، أو
متجددة الدلالات، أصبحت كل آیة كقطعة الغیار القابلة للدخول في أكثر من عملیة
بناء، ولھذا تفاوت نزول الآیة القرآنیة من تركیب إلى آخر، من حیث المنازل التي
ینزلھا بھا التناظر القرآني، وقد یصاحب تغیر منازلھا انقلاب في وجھھا، وقد لا
یحدث
التحول فتبقى على وجھھا الظاھر.
للحديث بقية،،،
[٤]
"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب
التأويل للشيخ البحراني نموذجاً"
آلية التأويل:
يرى الشيخ البحراني أن آلية التأويل الحديثة يجب أن
تستوحي ممارسة الرسول (ص) وتعامله مع مفهوم الأحرف السبعة، وكذلك طريقة أهل
البيت عليهم السلام في التعامل مع القرآن باعتباره نص مفتوح على التبادل في
المعاني والألفاظ من أجل استقامة المعنى الذي يستنطق به المرء القرآن. فيروى عن الإمام علي (ع): ((كان عمار إذا قرأ
يأخذ من هذه السورة وهذه، فذكر ذلك للنبي (ص) فقال لعمار: لم تأخذ من هذه السورة وهذه؟ قال: أتسمعني أخلط به ما ليس منه؟ قال (ص) لا. قال فكله طيب))
وفي هذا السياق يروى عن النبي (ص) قوله:
((إن هذا القرآن أنزل
على سبعة أحرف فأقرؤوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمه))، بالاضافة إلى رواية عبدالله ابن ابي السرح في أن
رسول الله كان يبدل ((سميعا عَلِيما)) إلى ((عَلِيما حكيما)).
واسترشادا على الأحرف السبعة، كان الأئمة (ع) والصحابة يمارسون
عملية الإبدال التعويضية في النص القرآني حسب الأمثلة التالية:
قرأ ابن مسعود: (وأيقن انه الفراق) فاستبدل "أيقن" بـ"ظن".
وعن ابن عباس أنه قرأ: (وان عزموا السراح)، فأبدل "السراح بـ"الطلاق".
وقرأ الإمام الرضا (ع): (فأنزل الله سكينته
على رسوله وأيده بجنود لم تروها)، فأبدل الاسم الصريح
"على رسوله" بالضمير "عليه".
وكذلك كانوا يمارسون القراءة بالاكمال:
قرأ أبي بن كعب: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل
معهم الكتاب) بإضافة "فاختلفوا".
الأمثلة السابقة كانت للإيجاز، حيث تتعدد الآليات
التي يحتويها منهج التأويل مثل النسخ والإبدال وتتفرع إلى:
النسخ بالتعويض، النسخ بالحذف / الإكمال، النسخ بالتقديم والتأخير، المتشابه / المحكم...
للحديث بقية،،
: [٥]
"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب
التأويل للشيخ البحراني نموذجاً"
معايير التأويل:
يضع الشيخ البحراني ضوابط ومعايير لعملية التأويل
وهي: التناظر، التصديق المتبادل، والانسجام.
١- التناظر:
إن الإنزال التأویلي للآیات یستھدف تألیف ونظم
آیات لھا وجوه جدیدة، وھي عملیة خاضعة لدلالة التناظر والتشابه في القرآن، في
إطار الاستقراء والتتبع، وفي إطار المقایسة والمقارنة التفسیریة، مما یعني أن
حركة التأویل الإبدالیة في القرآن وآیاته، منضبطة بضابط التشابه والتناظر
القرآني، الـمُحدّد لمسار الاستقراء والفارض لصیغة العلاقة التفسیریة بین الآیة
والآیة، مما یحتم بذلك قرآنیة الناتج.
٢- التصديق المتبادل:
في جانب آخر من الحدیث عن المعیاریة الضابطة
للقراءة، نجد قاعدة التصدیق المتبادل التي تھب الاستنباطات الناتجة عن تلاقح
الآیات الیقین، إن قاعدة مصادقة آیات القرآن على الآیات القرآنیة الناتجة
تأویلاً، تعني أن الفكرة التي ترویھا تلك الآیات القرآنیة، لا یمكن أن یوجد في
القرآن ما یناقضھا، بل لا یوجد فیه ما یصادق علیھا ویعززھا، وفي ظل ھذا الضابط
القرآني تصبح كل عملیة إبدال، یوجد ما یصادق علیھا عند الشك في الناتج؛ وھذا
یعني أن الجزء ینسجم مع النسق، وأن النسق له القدرة الضابطة التي تحكم أجزاءه.
٣- الانسجام:
ھذا الضابط یتحدد بضرورة انسجام مكونا الآیة
القرآنیة المؤلفة، مع المذھب القرآني في توظیفه للكلمات، وھذا الضابط ینطلق من
مقولة الرسول (ص): (إن َّ ھذا القرآن
أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ولا حرَج، ولكن لا تختموا ذكرَ رحمة بعذابٍ، ولا
ذكر عذابٍ برحمة).
للحديث بقية،،،
[٦]
"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب التأويل
للشيخ البحراني نموذجاً"
منهج التأويل:
يرى الشيخ أحمد البحراني، أن عملیة صوغ المادة
القرآنیة، في نھایة المطاف، ترجع إلى الترجیح بین الصیغ القرآنیة المتاحة، وھي
خاضعة لحسن أداء فقیه التأویل، الذي یمكن أن یركز على الأنسب من المواد
المتناولة في أداء المعنى، أو بالإمكان الرجوع إلى آیات نظیرة أخرى تقدم ما
ھو أفضل، أو تدل على صیغ أخرى غیر التي بین یدیه، تتیح مجالا لخیارات جدیدة
توسع دائرة الاختیار.
ثم يقدم الشيخ البحراني مثالاً على تطبيق منهج
التأويل، وهو كالتالي:
في قوله تعالى: {وآیة لھم أنّا حملنا ذریتھم في الفلك المشحون وخلقنا لھم من مثله ما
یركبون}، فالتساؤل عن وسائط النقل الأخرى "المركبات" المماثلة للفلك، یدعو لإرجاع الآیة إلى نظیرھا، من قوله تعالى: {والخیل والبغال والحمیر لتركبوھا وزینة ویخلق ما
لا تعلمون} ، فیكشف النظیر أن المركبات ھي الدواب المشار إلیھا، وعلى ضوء ذلك
یمكن القراءة تأویلا: ((وخلقنا لھم من مثله الخیل والبغال والحمیر
ما یركبون وزینة ونخلق ما لا یعلمون))، إلا أن الآیة في خاتمتھا تتنبأ بمركبات أخرى، مما لا یعلمھا أولئك
الأعراب الذین نزل علیھم القرآن، كما تحتفظ بصفتھا التنبؤیة لتشیر إلى مركبات
أخرى لا نعرفھا نحن الیوم، فیا ترى ما ھي ھذه الوسائط والمركبات التي تشیر إلیھا
الآیة: {ونخلق ما لاتعلمون}؟! بردّ ھذه الآیات المتشابھة إلى محكمھا من قوله
تعالى: {أخلق لكم من الطین كھیئة الطیر}، یُحكم وجه الآیة
في كھیئة الطیر، فأصبحت واسطة النقل التي لھا ھیئة الطیر، وھي الطائرة: فھي من جملة المركبات التي تقصدھا الآیة، ومما لا
یعلمھا الأعراب آنذاك. ویمكن إضافة ھذه الجزئیة المكتشفة إلى
الصیغة التأویلیة التي شكلتھا الآیات القبْلیة: {وآیة لھم أنا حملنا ذریتھم في الفلك المشحون وخلقنا لھم من مثلھ الخیل
والبغال والحمیر ما یركبون ونخلق الطائرة ما لایعلمون}.
للحديث بقية،،
[٧، والأخيرة]
"القراءة الحديثة للقرآن الكريم، كتاب
التأويل للشيخ البحراني نموذجاً"
تكملة لمنهج التأويل:
ثم بعدها يضيف الشيخ البحراني: فھذا الوجه الذي یرد فیه ذكر الطائرة إلى جوار
الدواب الموظفة كوسائل للنقل آنذاك، یبین أن تاریخ وسائط النقل سوف یشھد انعطافة
على ید الإنسان، بخروجه من طور الاعتماد على الدواب في النقل إلى الطور الذي
یعتمد على الوسائط الصناعیة باختراع الطائرة وشقیقاتھا، مما تشیر إلیھا الآیة
إشارة مبھمة نكشف عن بعض إجمالھا بالتوصّل إلى وسیلة من تلك الوسائل ألا وھي
الطائرة.
ولما كان قوله: {أخلق لكم من الطین كھیئة الطیر}، حكایة عن المسیح عیسى بن مریم، فإن ذلك
یدل على أن مخترع الطائرة سیكون ممن ینتمي لملة المسیح، وھذه الحقیقة یصادق علیھا
الواقع المعاصر، حیث مخترع الطائرة ھو المسیحي رفائیل رأیت، وھذا ما یجعل ھذه
الآیة نبوءة قرآنیة في ذلك الوقت، وتقریرا للواقع في العصر الراھن، وإبرازا لشيء
من الجانب الإعجازي في القرآن.
في الأخير، يقدم الشيخ أحمد البحراني منهجه في
التأويل، كأفضل الحلول المطروحة لتجاوز الانغلاق الفكري المعيق عن التقدم، ويصف
جمود النص وانغلاقه بأنه بمثابة الضربة القاصمة للإسلام حین جُمد القرآن على
قراءة واحدة، وكیف حقق مشروع التحریف انتصاره بذلك الحصر، بدعوة المحافظة على
القرآن من التحریف، لیتحول مفھوم التحریف إلى مفھوم صیانة القرآن منه، ویتحول
مفھوم التأویل إلى مفھوم التحریف، الذي ینبغي محاربته، وصُور الإسلام بحصر
القرآن بذلك كنظام حیاة محصور في حقبة تاریخیة ضیقة بآفاقھا ومداھا الزمني، مما
أدى إلى انحسار الإسلام كنتیجة طبیعیة لانحسار التأویل عن القرآن، وتراجع لیوصم
بالتخلف والرجعیة، وما ھو متخلف أو رجعي، ولكن ما جرى علیھ أظھره بھذا المظھر.
فالإسلام بالقرآن المؤول كان وما یزال شمولیا في
بیانه، معاصرا في خطابھ، مستقبلیا في
تطلعاته، عالمیا في أھدافه، سامیا في مرامیه، ولكن
المسلمین ھم المتخلفون في فھمھم للكتاب.
أنتهت القراءة، وتقبلوا فائق مودتي،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق