السبت، 16 نوفمبر 2013

الشهداء

الشهداء

مقالات الاسبوع الاول من نوفمبر 2013



الشهداء

المحتويات:

الشهادة هل هي مذهبية أم انسانية                                                               يحيى الجاسم
قراءات عاشورائية متقاطعة، الفهم والسلوك الايماني من خلال منظورين              كاظم الخليفة
الإمام الحسين (ع) في دراسات المستشرقين                                                  كاظم الخليفة
كربلاء وتمثلاتها في الفكر الشيعي                                                               كاظم الخليفة



**********************************************************************************************


الشهادة.. هل هي مذهبية أم انسانية؟

عند وضع المجهر قليلا على حقب تاريخيّة معينة سنجد أن التضحية سلوك بشري مرتبط ارتباطا و ثيقا بقيم الكرامة و الاستقلال و الأمن و الحرية و العدالة ، و لا يمكن بأي حال من الأحول حصر هذا التفاني من أجل القيم حصاراً مذهبيّا .. فرموز النضال التي أينعت وقطفت ثمارها الملايين في كوبا و الهند و جنوب أفريقيا و لبنان من أمثال نيلسون مانديلا و تشي جيفارا و غاندي و نصر الله كلها تستحق التمجيد و الدراسة التحليلّة بما يضفي تصحيحا على مسارات الحياة الواقعة تحت مظلة  الظلم و الاستبداد الفكري قبل السياسي .. أما موضوع الشهادة كمصطلح ديني فلكل ديانة أدواتها الخاصة بها في الحكم على الآخر بأنه شهيد أو لا ، و كثيرا ما يشتت الجدل المصطلحي أهداف الثورة التي ناضل من أجلها الرموز الثائرة و لذلك أظن أن الانشغال بحيثيات الثورة و أهدافها أهم من الانشغال بمصطلحات قد لا تفضي إلى نتيجة .. أما شهادة الإمام الحسين عليه السلام فلا أعتقد أنها قضية مذهبية و إن مذهبها البعض بل أعتقد أنها إنسانيّة و ليس ذنب الإمام أن أخطأ البعض في قراءة قضيته.

اتفق مع الاخوة جميعا بأن غلبة الطقوس على الملحمة الحسينية يضر بها و لا يخدمها و توظيف القضية في الشحن الطائفي أو إذكاء الفتنة المذهبية أمر لا يمكن السكوت عنه إطلاقا .

أخلص إلى أن التضحية سلوك بشري و ليس مذهبي و أن دراسة الرموز الثورية ينبغي أن يكون أيضا خارج الأطر الضيقة و تخليد الرمز بفكره و ليس بالطقوس التي نحييها و التوازن سيد الموقف.

يحيى ناصر الجاسم
*****************


"قراءات عاشورائية متقاطعة، الفهم والسلوك الايماني من خلال منظورين"

فهم الذات وتوصيف مبانيها الإيمانية والثقافية، والذي هو في حصيلته النهائية يُترجم على شكل سلوك الفرد ونظرته للعالم، يتم من خلال طريقين:
الأول هو نظرة الآخر وما يمكن أن يصفنا  به. والثاني، هو ما يستطيع الفرد وصف ذاته وشرحها للآخر. 
فمن أجل تفهم ذواتنا الإيمانية وتمثلها لحدث عاشوراء المقدس، عملت على قرائتها من خلال الآخر المختلف، وهو الأب اليسوعي الهنغاري الجنسية روبير بندكتى في كتابه "الشعائر بين الدين والسياسة في الإسلام والمسيحية" ؛ أما من ناحية توصيف الذات وشرح مفهومها الايماني العاشورائي، فقد ذهبت الى البروفيسور الايراني - الأمريكي محمود أيوب، وهو يشرح كربلاء في خطابه الموجه الى المجتمع الغربي من خلال كتابه "الألم الخلاصي في الإسلام، دراسة في المظاهر الدينية لمراسيم عاشوراء". 
هاتان القرائتان ستكونان عونا لنا على رؤية ذواتنا المعاصرة، وفهمها العميق لحدث كربلاء؛ فإلى القراءة. 

أولاً قراءة الآخر، الأب روبير بندكتى:
تأتي دراسة الأب روبير بندكتي لتعالج القصور في الدراسات الاستشراقية والتي تناولت المجتمعات العربية من خلال المناهج السيسولوجية والانثروبولوجية من حيث ركزوا سابقا على المشاكل المتعلقة بالانماء الاجتماعي  والاقتصادي وقضايا التغير الثقافي المترتبة عليه، ولم يتناولوا المسألة من علاقة تلك الشعوب بالبعدين المقدس والدهري، الأخروي والدنيوي، الطائفي والسياسي، ودورهما في حياة المجتمع المحلي.

من جهة أخرى أتت هذه الدراسة لمعالجة قصور آخر، حيث درج المثقفون العرب على تعتيم قضية الدين ودوره في المجتمع، وذلك لاعتبارات إيدلوجية، فقد رأى المثقفون الاسلاميون أن الانتماء الديني أو المذهبي لا يمثل مشكلة في الاجتماع الاسلامي.
الأب روبير يقارب العلاقات المعقدة بين المقدس والدهري في المجال الاجتماعي والثقافي وأثر تلك العلاقة على الشأن الطائفي السياسي. 

في بحث ميداني أجراه الأب روبير و اختار مناسبتين احتفالييتين اقامهما أعضاء جماعتين طائفيتين في بلدتين لبنانيتين: شعائر جنازة المسيح في قرية بنيانا المسيحية، والنبطية الشيعية في مراسيم عاشوراء. نحن هنا سوف نضيء جانبا بسيطا على الشعائر المسيحية ثم ننتقل الى موضوعنا وهو قراءة الآخر للحدث الحسيني.

الجمعة العظيمة في بلدة مهجورة (بنيانا)، تظاهرة دينية سياسية:

"الاحتفال بشعائر جناز المسيح في الفصح، يبتدأ بأبتهالات وقراءات وأناشيد ، ثم من بعدها يتكون موكب الجناز من الجماعة المحتفلة في أحد البيوت، ويحمل النعش الذي يرمز لجنازة المسيح بعد صلبه، ويحمل الى موقع الكنيسة الرعائية. ومن المنطقة التي عمل  فيها النعش كان الموكب يتوجه نحو موقع الكنيسة الرعائية المهدمة، وفي المقدمة يمشي أحد الأهالي حاملاً الصليب، ووراء الصليب يسير الكاهن وإلى جانبه فتى يحمل المبخرة، ويحمل النعش ستة رجال من البلدة، ويكون المختار أولهم إلى اليمين، ثم تأتي الجوقة، وفي نهاية الموكب يسير جمهور المؤمنين الذي يرافق الجوقة بالتراتيل.

وطبعاً أصبح شعائر جناز المسيح منبراً سياسياً للمطالبة بحقوق الطائفة المسيحية في لبنان، ويتبين لنا أن الإحتفال الفصحي هو الإطار الذي تجري فيه عملية تحول الرموز اللاهوتية الى رموز اجتماعية سياسية، تجري هذه العملية في خبرة المحتفلين الذهنية، بقدر ما يصبو هؤلاء لإظهار هويتهم المدنية من خلال تأكيد انتمائهم المذهبي.وهذه الشعائر تتمتع بقدرة هائلة على إنشاء الروابط الاجتماعية – النفسية بين المحتفلين، الأمر الذي يلّون خبرتهم بصبغة اجتماعية"


الاحتفالات الحسينية إحياء للوعي الجماعي (النبطية):
في صباح يوم عاشوراء يجري الاحتفال المسرحي باستشهاد الحسين في معركة كربلاء، وتمثل التعزية أو التشبيه، الظاهرة المسرحية الوحيدة في الثقافة الاسلامية. وفي هذه التعزية يمثل (مسرح هواة)، فنجد أن جميع الممثلين والمنشدين والمنظمين (المخرجين) وكل المشاركين في إنتاج هذه المسرحية واخراجها وتمثيلها، هم من غير المحترفين، ويقومون بهذه الفعاليات من أجل خدمة الامام الحسين، والتقرب منه ومواساته، أن التعزية مسرح وشعيرة دينية في آن واحد، بحيث يمكن تشبيهها بالمسرح الديني الشائع في أوروبا القرون الوسطى الذي عرض آلام يسوع المسيح.

كذلك نجد تعزية الشيعة، الممثل يتقمص أدوار الابطال عن طريق محاكاته الوقائع التاريخية واندماجه فيها روحياً ووجدانياً، وبذلك يستطيع أن يعكس مشاعرهم بشكل عفوي، فلا يقوم بأداء دور محدّد ومرسوم له مسبقاً لشخصية معينة فحسب، بل إنه، وفي الوقت نفسه، يشارك المشاهدين فينفعل ويتعاطف وإياهم، وبذلك يؤدي دوراً مزدوجاً كممثل ومشاهد معاً، فالمتكلم والسامع – الممثل والمشاهد ، يتواجدان معاً على المسرح.

ثم أن مسرح عاشوراء لا يركز على المصداقية التاريخية بقدر ما يركز على المصداقية الظنيّة إنسجاماً مع المخيال الشعبي لتلك الوقائع وتأثيرها العاطفي، فقد تُعرَض بعض الحوادث بشكل قد يتعارض وحقائق التاريخ.

يهدف هذا المسرح الشعائري الى مساعدة المشاهدين على أن يعيشوا خبرة روحية حقيقية وهم يتفرجون على مشاهد الحدث التأسيسي، وبالتالي أن هذا المسرح لا يعرض لنا تسلسلاً تاريخياً، بقدر ما يعرض لنا أحداثاً تاريخية محددة ومعروفة ومتداولة بين الناس، وقد سمعها الكلّ أكثّر من مرّة من كتب التاريخ الاسلامي أو كتب المقاتل وقرّاء المجالس الحسينية، وعرف تفاصيلها وحفظ بعض مقاطعها عن ظهر قلب، المهم أنه يعرض تلك الاحداث على شكل مبادئ ورموز وقيم ويجسّدها تجسّيداً حسّيّاً.

ومن أهم مميزات هذه التعزية ما يمكن الاصطلاح عليه بمصطلح (اختفاء المخيال المسرحي) إن الممثل والمشاهد على حد سواء يندمجان وينصهران في ما يحدث على المسرح ويشاركان فيه مشاركة وجدانية الى درجة انهما لا يستطيعان التمييز بين الحدث المسرحي والوقائع التاريخية التي جرت قبل خمسة عشر قرناً .

فالمشاهد هنا، مشاهد ومشارك معاً. يستمع وينشد ويندمج مع الممثلين وبولع شديد، ومن دون عناء أو ملل، بحيث يصبح جزءاً منهم، الى درجة ينسى كونه مشاهداً، فيستولي عليه الانفعال والتوتر الوجداني بحيث تتولد علاقة جدلية وحية بين الممثل والمشاهد بين الحدوث المسرحي والحدث التاريخي الواقعي، أن ما يجري عرضه على المسرح قد تغير في مخيالهما وتحول الى واقع تاريخي، من هنا يتخيل الممثل أنه فعلاً ذلك الشخص الذي يمثله، وهكذا ينظر اليه المشاهد أيضاً. لذلك يحدث أحياناً أن المشاهدين يهجمون على الممثل الذي يؤدي دور شمر كي يمنعوه عن قتل الممثل الذي يؤدي دور الحسين، تكشف هذه التصرفات عن العملية الذهنية التي تفضي الى تحول الخيال المسرحي الى واقع معاش في خبرة الممثل والمشاهد على حد سواء.


شيعة الحسين في مجابهة هذه الدنيا، تحليل الخطاب العاشورائي:

لقد اتضح من رصد الشعائر العاشورائية والدراسة التحليلية لمعانيها أن الاحتفالات تتصف بقوة كبيرة على إنشاء علاقات اجتماعية نفسية بين الأفراد تحولهم الى أعضاء زمرة مرجعية متماسكة، وكذلك تأكدت قدرته على إنشاء هذه العلاقات وتوطيدها دوريا عن طريق التكرار الموسمي. من هذا المنطلق اعتبرنا الاحتفالات العاشورائية بمثابة الإطار العام للتنشئة الاجتماعية - الثقافية التي تبذل فاعليتها في سبيل تكوين الزمرة المرجعية وإعادة تكوينها. 

ان الرموز الشعائرية العاشورائية تمتاز بالقدرة على استحضار الحدث الماضي وتأوينه (Actualization ) بإضفاء معنى راهن عليه. كذلك يؤكدان قدرة الرموز الشعائرية على إحياء الخبرة الفكرية – الروحية عند المحتفلين، وذلك بواسطة الفنون الأدبية والتمثيلية التي تزود الشعائر الاحتفالية فاعلية حقيقية، فتجعلها منبع النشاط الاجتماعي والسياسي، وبهذا المعنى يمكننا القول إن معركة كربلاء إنما هي الحدث التأسيسي بالنسبة الى الإسلام الشيعي، وتعبر عن بنيته العميقة، حيث كانت معركة كربلاء بين الامام الحسين بن علي ويزيد بن معاوية صراعاً لاهوتياً سياسياً في آن واحد.. وترتبت على هذه الرؤية الاخروية – الدنيوية المندمجة، أن معركة كربلاء قد تحولت في الوعي الشيعي، الى مأساة قدسية واصبحت تعني (ولادة الإسلام في شكله الحقيقي) .
وهكذا أرتبطت ثورة الحسين وشخصيته ومبادؤه  وبطولته وتضحيته بالألم ،من أجل الإرادة الإلهية التي قررت ذلك الألم وتلك الشهادة وتلك النجاة، لأن البشرية لا تستطيع وحدها أن تتغلب على الألم البشري، وبذلك أصبح الاستشهاد طريق الشفاعة والخلاص واصبح الامام الحسين نفسه سفينة النجاة، لانه ضحى بنفسه لأجلهم فعاش الشهادة بصبره وارادته وتضحيته بأهله واصحابه، من أجل إنقاذ المسلمين ونجاتهم وهكذا أتخذ الالم من معنى الشهادة مقدماته المثالية ومؤثراته التاريخية.

ب- الاحتفالات في سياقها التاريخي:

لقد تطرق دارسو سوسيولوجيا العالم العربي الاسلامي الى تفسير المراسم العاشورائية وحاولوا فهمها من منظور الوظيفة التي تؤديها في المجتمعات الشيعية فقد اعتبر كل من (مزاوي 1979) و (قساطلي 1997) و (دونوهيو 1998) أن شعائر العزاء الحسيني بما فيها مواكب اللطم والجنازير والسيوف ، تعبر عن شعور الشعب الشيعي بالهوية والانتماء، وتفصح عن رفض لنخبويّة مراكز السلطة. أما (خوسرو خافار) فقد استعان بمفاهيم التحليل النفسي أداة منهجية تساعده على صوغ فكرة (نزعة الموت الإسلامية)، يرى هذا الباحث: أن هذه النزعة قد ظهرت في أوضح أشكالها في (حركة الشهداء) الايرانية، باسيجي، أثناء الحرب. 

وتطرق الكاتب الى تاريخية الاحتفالات بذكرى عاشوراء، من الحكم الاموي والعباسي والعثماني الى العصر الحديث، ولما استطرد ما مرَّ به العزاء الحسيني وزيارة كربلاء من عمليات قمع ومحاربة ، وإصرار الشيعة على إقامتها وزيارة كربلاء، رغم تعرضهم للمحن والبلاء والقتل والسجن. فيقول: فقد تبين لنا من هذا العرض الوجيز لمسار تطور الشعائر العاشورائية عبر التاريخ العربي والاسلامي أمران ذو معنى ومغزى: من جهة ان مراسم العزاء الحسيني كانت قد ارتبطت منذ البدء بتاريخ المعارضة السياسية في الاسلام وتحولت في احيان كثيرة الى شكل من أشكال الرفض والاحتجاج على الرؤية الايدلوجية الرسمية، وتحولت الى ضرب من ضروب المقاومة العلنية تارة والخفية طوراً في ظروف القمع والاضطهاد... ومن جهة ثانية: قد تحولت شعائر العزاء الحسيني الى منبر للخطاب السياسي والاعتراض على الاوضاع الجائرة في المجتمع. 

مجالس العزاء:
يؤكد الأب روبير بندكتي رأي المستشرق فلهوزن، أن شعيرة مجلس العزاء قد نشأت في خضم الصراع بين السلطة الأموية وزمرة التوابيين في السنوات الأولى بعد استشهاد الإمام الحسين، وكذلك ارتباطها بالزيارات المبكرة لقبر الامام والبكاء حوله وانشاد المراثي، والتي احتلت جانبا مهما من الادب العربي يطلق عليه "شعر المكتومات"، لحساسيته السياسية والدينية زمن الخلافة العباسية، وقد تكونت ثقافة تحتية يتداولها الناس بحذر شديد. فأول مجلس تأبيني كان في الكوفة حيث قام المختار الثقفي بارسال النادبات الى شوارع المدينة لتحريض جماعات الشيعة لنصرته ومحاربة السلطة الأموية.

أما أول تنظيم لمراسيم العزاء، فقد كانت في العهد البويهي، وليتطور بعدها من خلال العمل المؤسساتي والذي عملت عليه السلطة الصفوية في القرن السادس عشر، ثم يبرز أول مجلس عزائي في العصر الحديث، بعد أن كانت المجالس تقرا في سراديب المنازل، وهذا المجلس العلني كان في بغداد والذي حضره الوالي العثماني رضا باشا بتاريخ 21/3/1832، وكان قارئ التعزية هو الشاعر صالح التميمي.

تجمع كتب الحديث على أن الشيعة الأوائل كانوا يجتمعون في شهر محرم من كل عام في بيت من بيوت الأئمة من آل البيت أو في بيت واحد من انصارهم فيقيمون النياحة، وذلك طبقا للعادة العربية القديمة، حيث كانت النائحات المحترفات يقمن مراسيم البكاء على الموتى. أما التداول الاصطلاحي لهذه المفردة، بمعنى نائح الرثاء الحسيني، فقد ظهر في القرن الثالث الهجري.

قراء المجالس الحسينية:

وقد تطورت النياحة الى قراءة مقتل الحسين لابن نما، ثم لابن طاووس، وهي أول كتب المقاتل التي تتحدث عن المآسي الدامية التي حدثت في معركة الطف، ومن ذلك الحين أطلق على الذين ينوحون على الحسين "بالقراء"، ولا يزال القراء الى اليوم يعرفون بقراء المجالس 


تشييد الحسينيات:
كانت أولى الحسينيات التي شيدت هي "الحسينية الحيدرية" في الكاظمية عام 1279 / 1876، وقد تبعتها حسينية أخرى في بغداد ثم ثالثة في الكاظمية. أما في كربلاء فقد تم بناء الحسينيات في أوائل القرن العشرين حيث شيدت أول حسينية لنزول زوار الإمام الحسين ، وكذلك لإقامة مراسيم العزاء الحسيني عام 1344 / 1906، وكانت حسينية الشوشترية في النجف أول حسينية حيث شيدت عام 1319 / 1884، وفيها أقدم مكتبة من مكتبات العصر الحديث.

المواكب العزائية:
يؤرخ للمواكب العزائية من القرن الرابع الهجري هو بداية تأريخ وانطلاقة المواكب العزائية وعلى يد معز الدولة البويهي، وهو الذي جعل من مراسم العزاء عادة تتبع سنويا في بغداد، ولتنقطع تلك المظاهر في حقب تالية بفعل السلطات السنية المتعاقبة الى حين قيام الدولة الصفوية وعلاقتها المتوترة بالسلطة العثمانية، حيث شاب تلك المراسيم العزائية الكثير من التوقف ومن ثم معاودة الظهور الى حين الحكم العثماني للعراق، وقد كان أول موكب للطم في العراق، هو موكب الشيخ محمد باقر أسد الله (المتوفي عام 1840) في الكاظمية، ليتبعه موكب آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي (توفي عام 1846) في كربلاء.

الشبيه (مسرح التعزية):
نشأت بوادره الأولى في ايران الصفوية في القرن السادس عشر ومايله، حيث أختلطت نصوص الحدث بالفلكلور الفارسي، وهو شبيه بالمسرح الديني الأوروبي في القرون الوسطى، ثم يتطور لاحقا في لبنان والتي استبدلت فيها الساحات العامة بالمنصة الخشبية عام 1969.

أختتم قراءة الأب روبير بما يختم به بحثه الشيق ثم أنتقل من قراءة الآخر للحدث العاشورائي، الى الذات عندما تنكشف على الآخرالغربي، وكتاب الدكتور محمود أيوب.
إذن يختتم البحث الأب روبير بندكتى بما يلي:
وأخيرا تشكل الزمرة المنبثقة عن رابطة الولاء هذه، تشكيلة جماعية متراصة، لدرجة أنها تظهر بمظاهر الأنا الجماعي أو الزمرة - نحن. 

كان الولاء الأخروي - الدنيوي العامل الفاعل الذي أسهم في إيقاظ الوعي الجماعي عند أعضاء الزمرة المرجعية الشيعية. وبفضل هذا الولاء قد تحول الشعور بالانتماء إلى وعي جماعي، ولا يزال يحدث تيقظ الوعي الجماعي هذا دوريا من خلال المشاركة في الإحتفالات بذكرى الحدث التأسيسي، أذ في تلك اللحظات تصبح الرابطة الاجتماعية - النفسية خبرة ذهنية واعية. 

ينتهي هذا المحور، ونلتقي في المحور الثاني؛ والألم الخلاصي في الإسلام. 

*********************** 

ثانياً: عاشوراء في مرآة الذات:
بعد الرحلة المشوقة والتي رافقنا فيها  الأب اليسوعي روبير بندكتى ووصفه؛  شعائر الحزن النبيل و رمزية إحتفاء الشيعة بالحدث الكربلائي، ننتقل الآن الى الضفة الآخرى من فهم الذات لسلوكها الديني، ومن خلال وصف شيعي للمأساة الكبرى في التاريخ الإسلامي وتبريره لقيامه بشعائر البكاء والحزن ومرجعياته الدينية والثقافية، كل ذلك يشرحه للآخر في تبادل للمقاعد. 

البروفيسور اللبناني - الأمريكي محمود أيوب، (كنت قد أخطأت في تعريفه سابقاً على أنه إيراني)، أستاذ الاهوت والأديان في جامعة كاليفورنيا يقدم الامام الحسين وكربلاء للمجتمع الأمريكي في رسالته للدكتوراه بجامعة هارفارد وتحت عنوان "الألم الخلاصي في الإسلام، دراسة في المظاهر الدينية لمراسيم عاشوراء عند الشيعة الإمامية". 

في الحقيقة كنت مستفزاً وأنا اتخيل كيف للشيعي أن يشرح الحسين للآخر وبالذات الغربي؟ إلا أن الدكتور أيوب كان موفقاً عندما قارب موضوع الإمام من زاوية الألم المقدس للحسين والمنجي للبشرية كوسيلة يعبر من خلالها المؤمن الى الجنة، وهو ما حاول الدكتور الولوج منه الى العقلية الغربية المسيحية لإمتلائها بالسيد المسيح وآلامه التي أفتدى بها البشرية (حسب الفهم المسيحي وإيمانه بصحة صلب المسيح). 

بيت الأحزان:
يفتتح البروفيسور محمود أولى عناوين بحثه برمزية مزدوجة وهي بيت السيدة الزهراء عليها السلام وبكاؤها على والدها الكريم لفقده ولظلامتها في تنحية زوجها عن الخلافة، والأهم وهو بكائها على مصاب ولدها المستقبلي ونهايته المأساوية.  


الألم الخلاصي (المنجي):
تحت مظلة بيت الأحزان و معنى الألم الإنساني كمقدمة للخلود الأخروي ومدخلية لآلام الإمام الحسين عليه السلام، يحرر المعنى البروفيسور وأستاذ الاهوت في جامعة كاليفورنيا محمود أيوب:

"تميزت حياة الإنسان بغموض كبير وهو غموض الألم والموت، الوعي الإنساني ومنذ بداياته كان وعي الآلام والموت، الألم الجسماني الحقيقي أو النزاع العقلي أو كلاهما معا. قد تمثل المراحل الأولى للحضارة وبناء المجتمع الإنساني كمحاولات لمواجهة المعاناة وكل اضطراباتها، انعدام الأمان والألم وإيجاد معنى للحياة على الرغم من كل هذا، اتسمت هذه المحاولات بالبحث عن الذات والبقاء بدلآ من مفهوم وقيمة وجود دائم ويائس".

البروفيسور محمود أيوب يجعل من الألم نتاج ومظهر للقلق الوجودي عند الإنسان في بحثه عن معنى لحياته، والذي بالتالي سينعكس عن مصيره بعد الموت، وهو مايمكن تسميته مجازآ الألم في سبيل وعي الإنسان بذاته و مشروعه الإيماني في هذا العالم.

ان القفزة العظيمة التالية في حياة الإنسان تكمن في إدراك معنى وتحقق حياة الإنسان ليس على الرغم منه، بل من خلال المعاناة، بل حتى بالموت. هذا البحث عن خلاص الإنسان وكذلك عن الوجود الزائل الكامل له هو جوهر الأيمان. ان الإيمان وبلاشك هو الهبة الإلهية للإنسان، إلا أن قبول الانسان لهذه الهبة وتأثيرها في حياته هو مانعني به البحث عن الإيمان. ان هذه العملية ومن خلال وجهة النظر الدينية اصبحت تاريخ الوحي او العناية الإلهية في تاريخ الإنسان التي تشكل وتقود نحو التحقق النهائي بالله.

فضيلة الألم للأتقياء:
يُعد هذا العالم بالنسبة الى المؤمنين، عالم آلام واحزان. تم التعبير عن هذه الفكرة وبتأكيد شديد في التقاليد الإسلامية على الرغم من ان هناك تأكيد مقارب آخر على كل الأشياء الجيدة التي توفرها الدنيا للإنسان ليهنأ بها ويستمتع. وكان الحديث يشير إلى أن الإنسان التقي سيلقي الآلام والمصائب حسب قوة إيمانه، وقوة صبره وتحمله التي ستلقى بالتالي المكافأة المناسبة لذلك. فعندما سأل سعد بن ابي وقاص "يارسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ فأجابه الرسول (ص): الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه من خطيئة".

فبكل ذكاء يستحضر البروفيسور أيوب حديث السيد المسيح "طوبى للمحزونين، فإنهم يعزون". هنا يوسع الباحث بيت الأحزان ليتسع لجميع المؤمنين،  حتى يصبح بيتا دنيويا ومكانا لتجارب المصائب ووسيلة لإظهار حبهم لله بقبولهم مشيئته، أصبح بيت الأحزان ملاذ الأرواح القانعة بالله. ان بيت الأحزان أقدم من الخليقة نفسها وسيستمر حتى اليوم الأخير، إذ ستنتهي كل الأحزان والآلام والروح التي كانت ثابتة في خضم الآلم والأحزان، ستدخل إلى ملاذها الأخير في جنة الله. ان بيت الأحزان لا يشمل الإنسانية بل الكون اجمعه كذلك، السماء والأرض وكل ما يوجد عليها، ستتألم مع أو لأجل أهل البيت.

اشتراك الأنبياء الأوائل في آلام العائلة المقدسة:
"ان عائلة الرسول محمد (آل البيت) تحتل مكانة رئيسة في المذهب الشيعي. إذ ان كل آلامهم وعذابهم يتمركز في رجل واحد وهو الشهيد المظلوم، الإمام الحسين بن علي ابن اب طالب. ان كل الآلام السابقة هي خاتمة لآلامه التي تعد الفصل الأخير في هذه الدراما الطويلة من البلية أوالأختبار. فهو قائد الشهداء وخاتمتهم وكل عذاب وشهادة أعقبته تعد شكلاً من اشكال المشاركة في شهادته".

الأكاديمي الهارفاردي (جامعة هارفارد)، يمهد لوضع آلام الإمام الحسين عليه السلام في سياق ديني طويل يكون خاتمته، حيث يرجع الذاكرة الدينية الإبراهيمية الى عهد آدم وما تلاه من الأنبياء فقد شاركوا في آلام محمد (ص) وأهل بيته، ولا سيما في شهادة حفيده في طريقتين، مباشرة وغير مباشرة، فإن كل منهم جرب الألم أو الحزن الذي يرتبط بالموقع المقدس في كربلاء. ولتتضح هذه الصورة، فقد اختار البروفيسور ايوب حديثا يرويه عن شخصية معرفية كبيرة ومخضرمة، كعب الأحبار والذي شهد الديانتين وتنقل بينهمان اليهودية والإسلام. "صرح بما يلي: واعظمها ملحمة هي الملحمة التي لا تنسى ابدا، وهي الفساد الذي ذكره الله تعالى في كتابكم فقال: (ظهر الفساد في البر والبحر)، إنما فتح بقتل قابيل هابيل ويختم بقتل الحسين بن علي". بعد هذا الربط بين التراجيديا الدينية، يقول أيوب: "ان آدم أبو الإنسانية هو أول من عرف من الناس في بيت الأحزان وشاركهم أحزانهم. كانت أسمائهم (الكلمات) التي تلقاها من الله. وعندما رفض آدم إطاعة القانون الإلهي طرد من الجنة وجاءه الملاك جبرائيل وعلمه ان يصلي على هذا الشكل: قل يا حميد بحق محمد، يا عالي بحق علي، يا فاطر بحق فاطمة، يامحسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان. وعندما ذكر آدم اسم الحسين انفطر قلبه وسالت دموعه فسال الملاك عن السبب فأجابه الملاك: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، قال آدم وما هي؟ قال جبرائيل عليه السلام يقتل عطشانا غريبا وحيدا فريدا، ليس له ناصر ولا معين".

ينطلق البروفيسور أيوب من مسيرة آلام آدم حيث مر بكربلاء عندما خرج من الجنة وليقف على مكان مصرع الإمام الحسين، ونوحا عندما جاءه جبرائيل بمخططات بناء السفينة والمسامير التي سيبني بها سفينته، ومن ضمنها خمسة مسامير، وشعور نوح باللأسى والحزن عند ملامسته للمسمار الخامس. أما الرأس الأول للإنسانية الثانية ما بعد الطوفان نبي الله إبراهيم، فهو مشارك وبشكل مباشر وكامل في أحزان اهل البيت، ويعبر عن حزنه على شهادة الإمام الحسين ويعلن انها أشد وقعا على قلبه من ذبح ولده اسماعيل بيديه. وكذلك موسى وعيسى الذين مروا بكربلاء،  فقد أخبرت حيوانات البراري عيسى عن مقتل الحسين واستشهاده في هذه البقعة، وكذلك التشابه الكبير بين يوحنا المعمدان ومقتل الإمام. 

"لا يعود التاريخ المقدس إلى الوقت المادي أو الزمني إذ ان له منطقه الخاص الذي يتجاوز زمننا وعصرنا الحالي..اللوح والقلم، فالحسين يرتبط بهاتاين المفردتين من القدر والإيحاء. فاللوح هو تاريخ قدر الإنسان والأنموذج الأصلي للقرآن، ويتحرك القلم بمفرده على هذا اللوح الإلهي لكي يتتبع الأحكام الإلهية للأقدار. يرتبط الحسين بشكل خاص ومباشر أكثر مع تاريخ خلق البشرية. ويرتبط كذلك مع المخطط الإلهي لكن ومن خلال استشهاده تم تقرير مصير الإنسان. ان تاريخ الإنسانية يدور حوله اولا كإمام وأب للأئمة وثانيا من خلال مهمة الإمام المهدي الذي سينتقم لدم الحسين وتحقيق مهمته.

بعد هذه المقدمة التاريخية والدينية عن حقيقة الآلام المنجية وارتباطها بشخصية الإمام الحسين عليه السلام، يستكمل محمود أيوب تهيئة القارئ الغربي لمعنى آخر وهو مكانة العائلة المقدسة (أهل البيت) في الفكر الاسلامي عامة والشيعة خاصة ومعنى الإمامة الإلهية. ذلك يحضر وبشكل جلي عندما خصص فصولا كثيرة  ركزت على معنى استشهاد ذلك الشخص العظيم والمهم في الفكر الشيعي والذي كان متعاليا على الصفة البشرية عندما كان نورا ومن ثم طينة مقدسة خلقت بباقيها أجساد شيعته.
بعد المعنى الروحي لمكانة الإمام يتحرك البروفيسور ايوب نحو البعد السياسي و مؤتمر السقيفة كبداية لتلك الآلام، ولا يمكن فهم شهادة الإمام الحسين بوصفها حدثا معزولا في التاريخ الإسلامي القديم، ولا كمليودراما تسبب بها عناد رجل ساذج او جاهل سياسيا (كما هو في فهم بعض المستشرقين). بل يجب ان تؤخذ في محتوى التاريخ الإسلامي منذ بداية حياة الرسول في المدينة وحتى وقتنا الحاضر. ولقد تم تكرار الجدال في هذه الدراسة على ان موت الحسين يعد، على الأقل بالنسبة للشيعة، نقطة تحول بالنسبة للأحداث السابقة والاحقة لها من التاريخ. ولا زلنا حتى هذه اللحظة نسمع من المنابر الشيعية في الجوامع ان الحسين قد قتل يوم السقيفة".

احتل هذا التمهيد الطويل والضروري للتعريف بشخصية الإمام الحسين عليه السلام وكذلك ملابسات مقتله وتفاصيل معركة كربلاء الجزء الكبير من البحث، ولينتقل بعدها الى موضوعنا الذي ندرسه حاليا، الشعائر والطقوس العاشورائية.

يُعد مقتل الامام الحسين (ع) قاعدة قوية لتحديد الهوية والتماسك في المجتمع الشيعي، فهناك تأكيد شديد للاحتفاظ بذكرى هذه الحادثة المأساوية حيةً وبكل الوسائل الممكنة على الرغم من المعارضة والصعوبات والاضطهاد، ومنذ البداية وفر الأئمة القوة الدافعة لذلك، من خلال المكافأة الكبرى مقابل دموع المخلصين لهم؛ والوعد بالجنة. 

إن البكاء هو تذكار للمؤمنين على آلام الحسين، فالمهم هو استذكار المأساة نفسها أكثر من البكاء كعمل. يقول الامام زين العابدين عليه السلام "من ذكرنا عنده وفاضت عيناه ولو مثل جناح بعوضة غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر". 

شعائر وطقوس التعزية بدأت في رأي البروفيسور محمود أيوب في الكوفة، حيث كانت النساء يستقبلن السبايا وهن يلطمن ويبكين، وبعد ذلك المأتم الرسمي في بيت يزيد، ثم ينتقل العزاء من الصورة العفوية الى تنظيم التوابين، ثم بيوت الأئمة وأصحابهم. 

المذهب الشيعي الشعبي:
في القرن الثالث الهجري نشهد ظهور النادب الرسمي (النائح) الذي يتلوا المراثي والقصص المتعلقة بآلام الأئمة، ومع الوقت ظهرت "مقاتل الحسين" التي كتبت خصيصاً لهذا الغرض. ولقد أطلق على منظمي مجالس التعزية هذه تسمية (قُراء الحسين). 
لقد ساهم هؤلاء كثيراً في نشوء وتطور المذهب الشيعي (الشعبي)، ولا سيما تبلور الجماعة الدينية حول طقوس محرم. 
في بداية تطور طقوس محرم، شعر الناس بالحاجة الى رمز واقعي يجسد أحداث كربلاء. ففي البداية ظهر حصان في منتصف الموكب معطى بوشاح وملطخ بالدم؛ كان يمثل حصان الحسين بعد مقتله. وفي القرن العاشر الإسلامي، بدأ هذا الموكب يتطور الى مسرحية عاطفية (الشبيه). 
ان مجالس التعزية قد اتخذت عدة أشكال تعكس الثقافات المختلفة للمجتمع الذي تقام فيه. 

مكانة شعر المراثي في طقوس محرم:
لقد كان الشعر ولا يزال واحداً من أهم عناصر تطور طقوس التعزية. من خلال الشعر يستطيع الشاعر التعبير عن الأفكار الدينية والأدبية وأحاسيسه ليس فقط تلك التي تعبر عن مافي قلبه ولكن أيضاً تلك التي يعبر بها عن حس الجماعة. 
هناك عاملان مهمان لطالما أعطيا للشعر مكانة خاصة في طقوس التعزية: العبقرية الشعرية العربية، والمكانة التي يتمتع بها الشعر العربي قبل الإسلام وبعده. وما يعادلها أهمية المكافئة الكبيرة التي وعد بها الشعراء يوم القيامة. 
يضيف البروفيسور أيوب، "ان التقنية الشعرية الشائعة بشكل خاص، هي إسباغ الطابع الدراماتيكي أو المسرحي على جانب من مأساة محرم إذ أن المتحدث هو أحد أفراد العائلة المقدسة، أما النبي أو ابنته فاطمة أو إحدى النساء اللواتي كن موجودات في المعركة". 

يختتم البروفيسور محمود أيوب بحثه ورسالته لنيل الدكتوراة من جامعة هارفار بقوله:
لقد تابعنا في هذه الدراسة دراما طويلة من الألم والاستشهاد والخلاص في المذهب الشيعي، منذ بدايتها قبل بدء الزمان، وحتى نهايتها في المستقبل السرمدي، حيث ستنتهي الأزمنة. فمن خلال آلآم أولياء الله سوف يتحرر الزمن والتاريخ الانساني. فضلا عن ذلك، فعلى الرغم من أن شخصيات خاصة ومعينة تلعب دوراً محوريا في هذه الدراما الطويلة، فهي تملك الكون كله كمسرح لها وكل المخلوقات تلعب دوراً فيه. 

************************

بعد استكشافنا لمنظورين في فهم الذات المتدينة وسلوكها في التعبير عن مكونها "الروحي" من خلال شعائر الحدث الكربلائي العظيم،  نتوقف هنا لنسأل: هل هناك مجال لإضافة منظورٍ ثالثٍ "مادي" يكون بمثابة قراءة متطورة "بأبعاد ثلاثية"؟ 

نعم نستطيع إكمال الدراسة والبحث عندما نضيف قراءة معاصرة تناولت كربلاء من بعدها المادي؛ السياسة والاجتماع، باستخدام المنهج الفقهي الأصولي، وأداته المميزة؛ نقد الرواية والحديث، و على يد عالم حوزوي مجتهد هو آية الله الشيخ نعمت الله صالحي نجف آبادي، وكتابه "الشهيد الخالد". 

مقدمة البحث:
يمهد آية الله نجف إبادي لبحثه بهذه المقدمة: تُعد مسالة ثورة الإمام الحسين عليه السلام من أعقد المسائل في تاريخ الإسلام. وعلة هذا التعقيد وجود اختلافات وتعارض فيما ذكرته المصادر والوثائق التي تحدثت عن هذه الواقعة، الأمر الذي أدى الى بروز آراء ووجهات نظر مختلفة حول طبيعة تلك الثورة وحقيقة أهدافها. 
ومن جهة أخرى لما كان عمل الإمام حجة كان لابد من معرفة حقيقة نهضته كي يتمكن الناس من اتباعها والتأسي بها، وعليه فإن حركة الإمام هذه موضوع لمسألة فقهية وعلمية هامة. 

مرجعية البحث:
ثم يشرح الشيخ نعمت الله منهجه في البحث ومصادره كالتالي: وكتابنا (الشهيد الخالد) إنما اعتمد على تاريخ الطبري، لأن الطبري نقل ما أورده حول ثورة سيد الشهداء عليه السلام من من كتابي الشيعة القيمين، أي مقتل لوط بن يحيى (أبي مخنف) ومقتل هشام بن محمد، فكل ما اقتبسناه من تاريخ الطبري في كتابنا هذا هو مطالب دونها شخصان من تلامذة حضرة الإمام الصادق عليه السلام حول موضوع ثورة الأمام (ع)، ويضيف الشيخ نعمت الله: ولا يفوتنا أن نقول عن الأدلة التاريخية الواضحة التي ساقت مؤلف هذا الكتاب إلى موقف اتبع فيه الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي رضوان الله عليهم خلافا لبعض الأفكار التي راجت بين الناس (الشيعة) منذ القرن الهجري السابع فما بعد.

الجانب الروحاني للإمام:
للنبي والإمام جانبان: روحي وبشري. 
من ناحية الجانب الروحاني يتمتع النبي والإمام بمقامات يستحيل على الناس العاديين أن يدركوها "وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى" كما ورد في نهج البلاغة وإرشاد الشيخ المفيد. 
أما من ناحية الجانب البشري فهم بشر كسائر البشر يأكلون ويشربون ويمرضون ويموتون. وهم - في هذا المستوى البشري - يقودون الناس. 
وقد بحثنا في هذا الكتاب ثورة الامام الحسين (ع) على أساس الجانب البشري ومستوى الحياة الاجتماعية للإمام حتى يمكن لحركته أن تكون أسوة وقدوة يقتدي بها الناس. 
ومن البديهي أنه عندما تدرس ثورة الإمام من وجهة النظر البشرية لا ينبغي أن نتصور أن هذا ينقص شيئاً من الجانب الروحاني له، لأنه من الواضح للجميع أن أهل بيت الرسالة ينالون الفيض من الله بواسطة جانبهم الروحاني، ويأنسون بالناس ويفيضون عليهم بواسطة جانبهم البشري، كما قال أمير المؤمنين (ع) "إنا صنايع ربنا والناس بعد صنايع لنا". 

علم الإمام بالغيب:
فإضافة إلى علوم أئمة أهل البيت عليهم السلام الإلهامية، فإنهم ورثوا علوم الأنبياء والملائكة وعلوم خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله، حيث وضع نبينا الكريم جميع أنباء الغيب التي أخبره الله تعالى بها تحت تصرف الأئمة المعصومين، وعلومهم واسعة بحيث يستحيل على الناس العاديين أن يحصوها. 
طبقاً للروايات القطعية، أنبأنا رسول الله (ص) مسبقا بشهادة حضرة سيد الشهداء (ع) وكان الإمام الحسين يعلم منذ طفولته بأن عاقبته ستكون الشهادة. 
هل كان زمن الشهادة معلوم بدقة أم لا؟ لعلماء الشيعة رأيان:
الرأي الأول: يعلم الامام على نحو الإجمال بأن عاقبته ستكون الشهادة ولكن لم يكن واضحاً بالنسبة إليه أن الشهادة ستقع في هذا السفر أم لا؟. (هذا هو رأي كل من: المفيد والمرتضى والطوسي)
الرأي الثاني: أن الإمام كان مطلعاً على جميع تفاصيل الحوادث الآتية وكان يعلم بالضبط مكان استشهاده وزمانه ولم تكن تخفى عليه جميع الحوادث المتعلقة بشهادته. 

كل ما في الأمر أن هذا العلم الغيبي لم يكن يحدد تكليفاً للإمام بل كان واجبه أن يعمل طبقاً لمجاري الأمور الطبيعية والعادية، كأن يرسل مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ له البيعة من أهلها ويهيئ له القوات الازمة.. فكل تلك الأمور كانت حسب التكليف الظاهري للإمام الذي كان مكلفاً أن يعمل به، رغم علمه بأنه لن يصل إلى الكوفة وأنه سيستشهد في كربلاء (هذا هو رأي العلامة الطباطبائي). 

تبين إذن أن أصحاب الرأي الأول والثاني متفقان على أن الإمام الحسين عليه السلام كان مكلفا  العمل طبقاً للموازين العادية للأمور، وهذا هو السبب في قيامنا - في كتابنا الحالي - بدراسة النهضة العظيمة للحسين ابن علي من زاوية المجاري العادية للأمور وبصرف النظر عن علم الإمام بالغيب، كي نكون بذلك قد اتبعنا ما أتفق عليه أصحاب الرأيين من العلماء من جهة، وكي يكون عمل سبط النبي (ص) أسوة يمكن للناس أن يقتدوا به. 

 المتن والمحتوى:
من منظور القراءة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الإسلامي إبان الثورة الحسينية المباركة، يتحرك الشيخ  آية الله نجف آبادي كاشفاً الظروف السياسية والدينية التي دفعت بالإمام الحسين عليه السلام للقيام بثورته العظيمة من خلال مسؤلياته الشرعية كإمام معصوم أولاً، ثم إبراز الجانب البشري في تنفيذ مخططات الثورة (مدة الإعداد للثورة كانت أربعة شهور وعشرة أيام) والتي طبعت جميع تفاصيلها ثانياً. 
فمن موت معاوية وتولي يزيد للخلافة، وضع الدولة الاسلامية والمجتمع، الى إنطلاقة الثورة وملابسات إنحراف مجتمع الكوفة ثم شهادته عليه السلام، كل ذلك تناوله الشيخ نعمت الله من خلال روايات حققها بنفسه ومغايرة لبعض كتب المقاتل مثل الملهوف على قتلى الطفوف لابن طاووس، وكتاب ناسخ التواريخ.. وغيرها من الكتب المشهورة، و في منهج مادي بحت، أي أن مجهودات الإمام عليه السلام كانت بشرية فقط وليس هناك تدخل للغيب في نجاحها الباهر والمأساوي!!

مفارقة سورياليه:
كانت تلك لمحة موجزة عن محتويات الكتاب، وقد ارتأيت أن أُسهب في تفصيل المنهج المادي الجديد، في مقابل اختصاري للمتن والمحتوى، ولأقدم مثالاً عن تطبيق آية الله نجف آبادي لمنهجه المادي في "مفارقة غريبة" بين رؤيتين، آية الله نجف آبادي المجتهد الشيعي الكبير، والمستشرق الألماني مارتين:
 في معرض نقده للرأي المشهور أن مهمة ورسالة الإمام الحسين عليه السلام من بداية حركته الثورية هي أن يقتل حتى يخلد الدين، أنتقد آية الله نجف آبادي في ضمن من أنتقدهم، المستشرق مارتين لقوله أي مارتين:
"ومقاصد الحسين (ع) كانت على علم وحكمة وسياسة وليس لها نظير في التاريخ، فإنه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظراً لذلك المقصد العالي، ولم نجد في التاريخ رجلاً ضحى بحياته عالماً وعامداً لترويج ديانته من بعده إلا الحسين عليه السلام. إن الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام". 
اُكرر، المقولة أعلاه للمستشرق الألماني مارتين. فماذا يقول في نقده آية الله نجف آبادي؟
يقول نعمت الله صالحي نجف آبادي في نقده على المقولات السابقة للمستشرق مارتين:
"لا ندري من أين أتى هذا الرجل الألماني بهذه الفكرة من أن الإمام الحسين (ع) لم يزل يوالي السعي في تدارك أسباب قتله؟
أي مؤرخ شيعي أو سني كتب أن الإمام سعى منذ سنوات إلى تهيئة مقدمات قتله؟
الأمر المسلم به أن الإمام الحسين (ع) لم يكن قد هيأ لمقتله قبل عدوان حكومة يزيد عليه، وأما بعد عدوان الحكومة، فعندما كانت أمكانية النصر متوفرة - من ناحية العوامل الطبيعية - تحرك الإمام نحو الكوفة لإقامة حكومة قوية بهدف نجاة الإسلام، وعندما انقلبت أوضاع الكوفة رأساً على عقب وأنتفت إمكانية إقامة الحكومة، سعى الإمام بكل جهده للحيلولة دون وقوع الحرب والقتال. وبعد أن فرض عليه مأجوروا الحكومة تلك الحرب غير الإنسانية وضد الإسلام، قام الإمام بحكم الضرورة والقانون والوجدان بالدفاع حتى آخر رمق وقاوم الظلم والعدوان"!!
وأما قوله إن الحسين قد أحيا بقتله دين جده، فجوابه: إن الإمام السجاد عليه السلام اعتبر أن مقتل أبيه الحسين عليه السلام أصاب الإسلام بثلمة عظيمة"!!
أترك الحكم لكم.. 


وفي الختام، يخصص الشيخ نعمت الله الجزء الأخير من كتابه، ليتناول مرويات أعطت بعداً إعجازياً للثورة المباركة ويناقش تلك الأدلة ومن ثم ينفيها، وذلك خارج بحثنا الذي نتناول فيه عينة من مختلف القراءات المعاصرة والتي تناولت الحدث الكربلائي في أبعاده الروحية والمادية. 
وسوف أترك المساحة المتبقية لآية الله نعمت صالحي نجف آبادي حتى يوضح مقصده النهائي ونتيجته من هذا البحث:
لقد خرجنا من مجموع الدراسة والتحليلات التي قمنا بها في هذا الكتاب بنتيجة تقول إن حركة سيد الشهداء سلام الله عليه، إضافة الى جانبها الإلهي والسماوي، كانت حركة عقلانية وضرورية لا يمكن اجتنابها من ناحية السنن العقلائية والقوانين الاجتماعية، بحيث أننا حتى لو صرفنا النظر عن جانب من إمامة الإمام، فإن نهضته تعتبر من وجهة نظر رجل سياسي مجرب ومحنك أكثر النهضات عقلانية وواقعية في رؤيتها.
فلو نظرنا إلى هذه الحادثة بعين فرد شيعي بسيط لكان من الممكن أن ننهي البحث بجملة قصيرة تقول:
"كان الحسين بن علي (ع) إماما مكلفا من الله تعالى واجبا خاصا أداه كما أمر فلا مجال للبحث والقيل والقال والسؤال عما فعل".
ولكن إذا أردنا أن نقوم ببحث ودراسة تاريخية لتلك الحادثة ونحللها تحليلا تاريخيا علميا كما نحلل أي حادثة تاريخية أخرى، فلا بد ان نستند في مثل هذه الدراسة التحليلية إلى نصوص التاريخ الأصلية وأن نستعين بالعقل والمنطق.
مودتي،،،

كاظم الخليفة

****************


"الإمام الحسين (ع) في دراسات المستشرقين"

في ببليوغرافيا رائعة (الكتابة عن الكتب)،   يقدم الدكتور عبد الجبار ناجي كتابه المهم والذي يسد فراغاً في المكتبات العربية وبموضوعه الشيق: "التشيع والإستشراق، عرض نقدي مقارن لدراسات المستشرقين عن عقيدة الشيعة وأئمتها". 
يتحدث الدكتور ناجي عن الاستشراق وبداياته، وكذلك التطورات التي طالت أهدافه، وإن كان التبشير بالدين المسيحي له الأثر الكبير والدافع القوي للمستشرقين، إلا أنه ومنذ القرن التاسع عشر، كان الهدف هو دراسة واقعية للشعوب الإسلامية وعقيدتهم الاسلامية. 
الكتابة عن الشيعة كانت تأتي مبكراً ضمن الحديث عن عائلة الرسول (ص) وكذلك أثناء بحوثهم على تشكل الدول الاسلامية. فيما بعد وخصوصاً بعد نجاح الثورة الاسلامية الإيرانية، أخذت دراسات المستشرقين تنحوا باتجاه الشيعة كفرقة متميزة بطابعها الخاص عن باقي الفرق الاسلامية. 

في الجزء المخصص عن الإمام الحسين عليه السلام، يطلعنا الباحث الدكتور عبد الجبار ناجي على عناوين تعريفية وردت لأهم المستشرقين والتي تناولت معركة كربلاء، ولكن طبيعة العرض البيلوغرافي لا يقدم الكثير من التفاصيل عن محتوى الدراسات، إلا بالقدر اليسير والذي يدل الباحث المتخصص على مصادر أجنبية تتعلق بموضوع دراسته. لذا سنمضي في جولة سريعة مع أبرز المستشرقين وعناوين بحوثهم، والتي أتمنى أن تترجم سريعاً. 

{أ} سيرة الإمام الحسين (ع) ومأساة كربلاء: 
١- المستشرق الألماني "فايل" في كتابه "تاريخ الخلفاء". كانت كربلاء جزءًا من دراسته وكان يتحدث عنها بكونها (حادثاً مأساوياً). 

٢- المستشرق الألماني "جوليوس فلهوزن، تناول كربلاء في عدة دراسات ومنها كتابه "المعارضة السياسية الدينية في الإسلام"، ويأخذ فلهوزن موقفاً في تفسير الثورة الحسينية على انها (تمرد ضد السلطة الأموية، بمعنى المعارضة السياسية والدينية بهدف الوصول الى سدة الخلافة). 

٣- المبشر البريطاني "كانون سيل"، حيث وقف في كتابيه على سيرة الإمام الحسين وثورته، أولاً في كتابه "عقيدة الإسلام" وثانياً في كتابه "الأئمة الإثني عشر"، وتناوله للإمام بوصفه الإمام الثالث في المذهب الإمامي الإثني عشري. 

٥- المستشرق الألماني "نولدكه"، فقد درس الإمام الحسين في بحثين مهمين أحدهما حول التشيع، أما الآخر فكان مباشراً عن الإمام. 

٦- المستشرق المبشر "لامانس"، له عدة إسهامات وقف فيها على سيرة الإمام ونهضته. الدراسة الأولى كانت بعنوان "فاطمة وبنات محمد" والثانية وعنوانها "الخليفة يزيد الأول". نتيجة دراسته، أن ثورة الإمام الحسين هي عبارة عن (مغامرة وتمرد). 

٧- السير برس سايكس، ألف كتاباً بعنوان (مجد أو تألق عقيدة شيعة العالم)، تحدث فيها عن الآثار التي جاءت بها فاجعة كربلاء. 

٨- المستشرق الألماني هونغمان، كتب بحثاً عن كربلاء في دائرة المعارف الإسلامية أشار فيه إلى استشهاد الإمام والى دفنه في الحائر. 

٩- المستشرق دوغلاس كرو، له دراسة بعنوان "موت الحسين بن علي ووجهات النظر الشيعية المبكرة بشأن الإمامة"، وهو بحث تطرق فيه إلى موضوعات متعددة حول عقائد الشيعة كالرجعة والإمامة وعلى الآثار الكبيرة لثورة الحسين في تطوير هذه العقائد وإعطائها الفاعلية والحركة عقائدياً واجتماعياً وسياسياً. 

١٠- المستشرقة فاجيليري، لها كتاب مهم بعنوان "الحسين بن علي بن أبي طالب"،  تتحدث المستشرقة عن طفولة الإمام الحسين وحب جده (ص) له.. إلى أن تتحول الى المحور الأساس وهو الثورة ثم استشهاده (ع)، إلى أن تصل إلى دفن الرأس الشريف فهو "إما إلى جانب والده في النجف، أو الكوفة أوفي كربلاء أو في دمشق أو في الرقة أو في القاهرة، معتمدة على المصادر المباشرة حول تلك الآراء". 
ثم تنتقد المستشرقة مواقف أنصار الأمويين من المؤرخين والمفسرين، بما فيهم ابن خلدون "والذين يعتبرون الحسين عليه السلام أنه باغٍ ، ولذلك فقد تغاضوا عن الفعل الشنيع الذي قام به العاتي الأموي. 


{ب} شعائر عاشوراء:
أما عن شعائر عاشوراء وطقوسها، فقد اهتم بها المستشرقين، وظهر أدب التعزيات في دراساتهم. ويلاحظ ان أكثر الرحالة الأوروبيين الذين زاروا العراق أو إيران أو الهند، خصصوا جانبا من رحلاتهم للحديث عن شعائر التعزيات ومنهم:

١- السير جون مالكوم، في دراسته "تاريخ فارس". 

٢- المستشرق الألماني شتروسمان، حيث بحث التعزية في دائرة المعارف الإسلامية بعنوان (التعزية)، فيقول إن معنى التعزية عند الشيعة النواح على من استشهد من الأئمة، والتعزية تعني التابوت المصنوع على غرار القبر القائم في كربلاء، وقد قدم شرحاً مفصلاً عن الشبيه. 

٣- السير لويس بيلي، ألف كتاب "التمثيلية الإعجازية للحسن والحسين". 

٤- المستشرق الفرنسي جوبينو، تطرق إلى التعزيات في آسيا الوسطى بمناسبة استشهاد الإمام في كتابه "الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى". 

٥- المستشرق والرحالة الفرنسي موريه، ذكر التعزية في كتابه "الرحلة الثانية في بلاد فارس". 

٦- لاسي .ج.، ألفت كتاباً عن (التمثيليات الدينية لمحرم بين الأتراك الأذربيجانيين في قفقاسيا). 

٧- المستشرق الفرنسي فيرولو، ألف كتاباً بعنوان (آلام ومصاب الإمام الحسين). 

٨- المستشرق الإسرائيلي يتسحاق نقاش، وله بحثا بعنوان "عاشوراء: بعض ملاحظات الشعائر أو الممارسات المطبقة في مختلف المجموعات الشيعية في لبنان وسوريا"، وكتابا آخراً  بعنوان "الطقوس والتطبيقات الاجتماعية كصناع للهوية: المحرم وعادة تبجيل الأولياء بين الشيعة العراقيين". 

٩- المستشرق غوستاف ثايس، ألف كتاباً بعنوان "الرمزية الدينية والتغير الأجتماعي في دراما الحسين". تحدث فيه عن التشبيهات والمسيرات في محرم نظير تشبيه الشمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام، وشعائر توزيع الماء ورفع الأعلام وما ترمز إليه النخلة وغيرها من المواضيع المهمة التي تتعلق بفاجعة استشهاد الإمام الحسين. 

 يقول الدكتور عبد الجبار ناجي في نهاية هذا القسم من البحث: "ولتوضيح ما يتناوله المستشرقون في هذا الأدب (التعزية)، الذي يجمع بين تاريخ ثورة الإمام الحسين ضد الأمويين وبين الشعائر الدينية التي لها عطاءات اجتماعية وعقدية عند الشيعة أينما وجدوا، فيذكر جيكوفسكي قائلاً:

"إن مايجري كل عاشوراء كأنه حدث قد وقع فعلاً في سنة ٦١هـ، وفي ميدان المعركة في كربلاء الحسين. إن الفرد يشعر وكأنه في المعركة في الوقت الراهن وفي أي بقعة أو بلاد يعيش فيها، ولا سيما في كل مكان يعاني فيه الشيعة دينياً واجتماعيا أو سياسيا أو في كل مكان تغيبهم السلطات الجائرة في البلدان العربية والإسلامية والأجنبية. 
ثم يستشهد بما ذكره "إلياس كانيلتي" الحائز على جائزة نوبل على كتابه الموسوم (الجماهير أو الشعوب والسلطة)، وجاء فيه: إن معاناة الحسين وما تثيره من ذكرى لتلك المعاناة في كربلاء الحسين قد صارت اللب أو الجوهر للعقيدة الشيعية؛ انها عقيدة أو دين في واقعه. دين النوح والبكاء، لا تقارن به في هذا المجال أي عقيدة من العقائد الموجودة، وليس هناك عقيدة قد شددت أو طبقت بشدة على مبدأ البكاء والنوح. وفي هذه العقيدة يعدّ البكاء واجباً دينياً سامياً بقدر كبير. وان كانت هذه الشعائر تختلف من مكان إلى آخر شكليا غير إن ما تعكسه من عواطف جياشة هو أمر مشترك وعام بين جميع الشيعة سواء كانوا في العراق أم في إيران أم في بقية العالم العربي أم في تركيا أم في الهند وباكستان أم في الكاريبي وترينيداد". 


{ج} دراسة المصادر التاريخية عن مأساة كربلاء:
يقول الدكتور عبد الجبار ناجي: ولما كان المصدر الأساسي الذي اعتمد عليه المؤرخون المسلمون الشيعة والسنة كالبلاذري واليعقوبي والطبري وابن الأثير وغيرهم، هو كتاب (مقتل الحسين) من تأليف لوط بن يحيى المعروف بأبي مخنف الأزدي الغامدي، رائد الكتابة التاريخية المعروف بالإخباري، إلا أن هناك عدة نسخ مخطوطة في مكتبات غوثا وبرلين وليدن مما دعى الكثير من المستشرقين الى تحقيقها واثبات صحة نسبتها الى أبي مخلف من عدمه.  
مودتي،،،

كاظم الخليفة
***********

"كربلاء وتمثلاتها في الفكر الشيعي"

{لقد كان مقتل عثمان مأساة (تراجيديا). أما مقتل الحسين فكان قطعة مسرحية انفعالية (ميلودراما) }. يوليوس فلهوزن، شيخ المستشرقين الألمان. 


هل من الممكن قراءة الحدث الكربلائي بعقلية حضارية معاصرة، والتي تعني إسترجاع مراحل تمثلاته وانعكاسها على الفرد الشيعي ومقدار استفادته من حدث عاشوراء وتوظيفه في حياته، سواء الفرد الشيعي التاريخي، أو المعاصر والذي يعيش في القرن الخامس عشر الهجري. 
إذن هي مغامرة بحثيه في جنبات التاريخ وبدون مسلمات يقينية سوى قداسة شخص الإمام الشهيد (ع) ومكانته في ذروة سنام الإسلام و في بؤرة الضمير الانساني. 

إذن هي كربلاء ومعينها الذي لاينضب، فكل يأخذ منها على قدر إناءه. تلك حقيقة نواجهها عند اقتراب كل ذكرى للمحرم وعاشوراءه. 
فبالرغم من احتفاء التاريخ بتلك المعركة المفصلية في المفهوم الإسلامي للخلافة والحكم ومفهوم السراط المستقيم الإيماني، إلا أن تلك المدونات التاريخية الكثيرة، قد شابها العديد من الإخفاقات وخصوصاً تلك التي تصور الامام الحسين عليه السلام باعتباره ضحية!! ، يعلق عليها فلتهوزن في كتابه "الخوارج والشيعة، أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام"، بقوله متعجباً  من تلك المرويات: معجزات ولعنات وأحلام وتنبؤات وعناصر روحانية أخرى، كل هذه تتشابك في مجرى الرواية عن مأساته.. وفي هذا التصوير يختفي الإحساس بانعدام البطل، وما كان مثله إلا كمثل آنية من الفخار اصطدمت بحديد هو عبيد الله ابن زياد، لقد مضى الحسين كما مضى المسيح في طريق مرسوم، ليضع ملكوت الدنيا تحت الأقدام، ومد يده كالطفل ليأخذ القمر!!

ذلك كان رأي فلهوزن، والذي يتناول الحادثة بشكلها المادي البحت، ويشيح عن الحمولات والمعاني الروحية في معركة الطف، لكن ألم يكن هذا المفهوم متسيدآ لحقبات تاريخية كثيرة، أحتفى فيها الشيعة الموالون بتلك المفاهيم عند تناولهم لقضية عاشوراء، عندما غلبوا الجانب الروحي ليطغى على ما عداه من مضامين مهمة مثل الحركية النضالية ومفهوم الحاكمية، الكرامة، والتضحية الاختيارية في سبيل هدف مقدس!!؟؟
وعلى الجانب الآخر تم نعت ذلك النضال الشريف بالخروج عن الحاكم الشرعي، سواء بادعاء ابن تيمية، أم من المعاصرين السلفيين!!، وهذا ما يدعونا لتناول قضية الطف من زاوية أفتراقها، واقترابها من حركة الخوارج. 

يلاحظ فلهوزن، أن الحركة الشيعية وثورات الخوارج، قد خرجوا جميعهم من معسكر الإمام علي عليه السلام. معركة صفين كانت تؤرخ لولادة الخوارج، وكربلاء للشيعة وشرعنة الثورات المسلحة. 
يصف المستشرق فلهوزن الخوارج، بأنها حركة سياسية ليست موجهة نحو أهداف يمكن تحقيقها فضلاً عن أنها منافية للمدنية،  (والأساس الذي يستند اليه هذا التهور في التقوى هو الايمان الحق بأن الدنيا عبث وأن بقاءها قصير وأن الساعة قريب، وهم إذن يبذلون كل طاقة عسكرية "من أجل تحقيق سياسة خلوٌ من كل سياسة".  
هذا هو التوصيف الحقيقي للخوارج وعبثيتها، أما كربلاء فلها أسسها المنطقية والدينية، والتي دفعت بالإمام الحسين عليه السلام من أجل الشروع في ثورته والتي كان مشروعها الدولة العادلة، الإسلام مقابل العصبية الجاهلية، مشروع النبي محمد صلى الله عليه وآله مقابل مشروع أبو سفيان ( يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولاحساب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة انه الملك)، أو بمعنى آخر:
وحدة القبيلة القرشية = عثمان، أمية. 
وحدة المسلمين = علي وأولاده. 
وعليه، هل يمكننا دراسة الحدث الكربلائي كأيدلوجيا ثورة أم مشروع دولة، و ضمن مفهوم الحاكمية الاسلامية. 

إن المفهوم المعرفي "للردة" في الإسلام، حسب الباحث خليل أحمد خليل في كتابه "العقل في الإسلام"، هو الارتداد عن عقل النبوة الشمولي، عقل الأمم، إلى عقل القبيلة، عقل الانغلاق والتحول عن مدينة العلم الى خيمة الجهل، خيمة رئيس القبيلة. 

في عصر معاوية ويزيد، واجه الحسنان تحدياً خطيراً متمثلا في تغلب الطرح القبلي على الطرح الإسلامي، عقل القبيلة أرتد عن عقل النبوة، فقامت دولة القبلية، بينما المنشود إسلاميا، قيام دولة نبوية / إمامية جامعة. 
فبعد موت معاوية وضع الامام الحسين (ع) أما استحقاق ديني حاسم، وهو الوقوف بوجه دولة القبيلة وأعادة الوهج الى دولة النبوة الأممية، فما هو أثر استشهاده عليه السلام على العقلية الشيعية، وهل تمثلت لدى محبيه كأيدلوجيا ثورة أم مشروع دولة نبوية؟

سنبتعد مؤقتاً عن قراءة الشهادة وحمولاتها العاطفية وكذلك رمزية الألم الخلاصي، حسب تعبير البروفسور الايراني- الأمريكي محمد أيوب،   واعتباره "شفاء الوجود أو تحقيق حياة الإنسان، الإنجاز من خلال الألم أو المعاناة كوسيلة للخلاص على الرغم من الزوال أو الإبادة". 
نحن هنا نناقش الحركة الحسينية من زاوية ترتيب الأثر الفكري على المجتمع، وانتقاله (فكر النهضة الحسينية) الى المدى السياسي والاجتماعي. 
وعندما نقارب هذه الجزئية من أثر الحركة، سوف تنقلنا مباشرة الى التاريخ السياسي الشيعي، وهو ما يدعونا الى فرز التاريخ وتقسيمه الى ثلاث حقب متميزة:
١- الحركات الثأرية. 
٢- الحركات الثورية. 
٣- مشاريع الدول الشيعية. 


الحقبة الأولى (الحركات الثأرية):
السلطة الأموية وبمجرد رفع رأس الامام الحسين على رأس الرمح، كانت تنوي طي الصفحة الأخيرة من سجل الإسلام المحمدي، ومفهوم رسالة العدل والتقوى الأممية، لكن مكر التاريخ، حسب تسمية هيجل، كان متربصاً بها في سكك الكوفة يوقض جذوة الايمان في قلوب محبي علي ومناصريه الذين وبمجرد رفع الآية الاسلامية (الرأس)، حتى تدافعوا للأخذ بثأره في حمية دينية ولأول مرة في التاريخ العربي القبلي، حيث القبيلة الاسلامية بتركيبتها القبيلية المختلفة،  تأخذ بثأر شيخها من قبيلة تمارس السلطة وتستبد بالشأن الديني والدنيوي. 
  
أربعة آلاف مقاتل ذهب بهم سليمان بن صرد الخزاعي الى "النخيلة"، قاتلوا واستشهدوا هناك عن بكرة أبيهم.. ومائة مقاتل في "هيت".. الى المختار وثورته المعروفة. 
ذلك كان أثر الانبعاث الحسيني المبكر والذي أصطبغت به جميع حركات المعارضة في القرن الهجري الأول وشكل أبرز ملامحها، وقد كان مشروع الا دولة في مقابل المشاريع الاحقة وهي أكثر عمقاً وتطوراً وذلك من خلال الثوارات والتي حملت نفس شعارات الحسين،  الدين والعدالة.  

الحقبة الثانية (الجرعة الثورية):

{إني أدعوا الى كتاب الله، وسنة نبيه، وإحياء السنن و إماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل} زيد بن علي 

حلم العودة الى زمن الرسالة المبارك، حيث قيم العدل والتقوى العاصمة من شرور السلطة واستبدادها، وهو ما كان عليه جهاد الامام الحسين (ع) واستشهاده، هو ما يمكن التعبير عنه ب"تجديد الفتح"، بعد الانتصار الإسلامي الأول وفتح مكة، ليأتي الحدث الكربلائي مجدداً لمبادئ ذلك الفتح العظيم. 
لقراءة أثر الحركة الحسينية على الثورات الهاشمية بفروعها المختلفة، العلوية منها والعباسية، والتي رفعت نفس شعارات الطف، تتطلب منا هذه القراءة تفكيك المبادئ الثورية تلك وعزلها عن الشعار الهاشمي العام (الرضا من آل محمد)، وتناوله من خلال شخصيتين حسينيتين يحملان نفس الاسم: زيد بن علي، وزيد النار (زيد ابن الإمام موسى ابن جعفر). 

تحتمل شخصية زيد بن علي رضي الله عنه العديد من القراءات وذلك لغموض الدوافع المحرضة للثورة ومحاولة تجييرها الى نطاقات حزبية وقربها أو ابتعادها عن الخط الأمامي الخاص. 

تفتحت عقلية زيد بن علي المعرفية على دروس أخيه الإمام محمد الباقر (ع)، وإبن عمه عبدالله بن الحسن أبن الحسن المجتبى، وبعد نضوجه الفكري، شارك في المساجلات المبكرة لعلم الكلام، وبداية تأسيس العقلانية الدينية وذلك بعد مراجعاته مع خصوم جده، وموقفهم من حروب صفين والجمل، واصل ابن عطاء وأساطين الفكر المعتزلي، والذي يرى الباحث الشيخ محمد أبي زهره، أن زيد كان نداً لهم، أفاد واستفاد. 
كانت تحركات الشهيد زيد مريبة في نظر السلطة الأموية مما دفعها الى مراقبته ومن ثم التضييق عليه ومحاولة إحراجه في قضية نزاعه مع بنو عمومته الحسنيين في ولاية وقفية للإمام علي (ع)، والتي تنبه لها زيد ورفض محاولة السلطة الأمية لجره للتقاضي عندها وفهمها كمحاولة إذلال. 
كان هو الوحيد المستهدف وبشكل شخصي من قبل السلطة، مما دعتها الى إذلاله وتعييره بنسب والدته وكونها جارية. خرج مغاضباً بعد ملاسنة مع هشام أبن الحكم وفهم أن قضيته سوف لا تنتهي إلا بالاغتيال والتصفية الجسدية. لا شك أن هذا الموقف والذي جعله المؤرخون السبب المباشر في خروجه وثورته، لا يستقيم مع طبيعة النظال السياسي حيث تتطلب الثورة الوقت الكثير من الإعداد وتنسيق الجهود مع قوى المعارضة، وكل هذا يشير الى تخطيط زيد المسبق للقيام بثورة العدالة وتقديم تنازلات عقدية مهمة من قبل الحزب الهاشمي وهو "إمكانية تقدم المفضول على الفاضل" وشرعية خلافة الراشدون الأربعة!!؟؟ مما أدى الى عدم تفاعل الأجنحة الهاشمية مع دعوته، والذي انسحب على قلة أنصاره ونهايته المأساوية. 

هذه السابقة في ثورة الخط الحسيني بعد معركة كربلاء، تلاها حادثة أخرى في التاريخ، وهي قيام زيد آخر بالثورة في العصر العباسي، زيد أبن الإمام موسى الكاظم وأخيه إبراهيم في عصر ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام، ومحاولة الإمام التوسط لإطلاق سراح زيد بعد حرقه لبيوت العباسيين في البصرة، ذلك ما يخص الخط الإمامي، أما الخط الإسماعيلي فليس مجال مناقشته هنا. 


"لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، و لم يكن بها ظلم إلا علي خاصة"، الإمام زين العابدين (ع)

الموقف الإمامي من حركتي زيد بن علي، وزيد النار، وكذلك باقي الثورات الهاشمية والتي ترفع نفس شعارات الإمام الحسين، يكشف عن مسألة مفاهيمية مهمة في الفكر الإمامي،  وهي أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت في إتجاه تكوين حس إسلامي يتعالى فيه المسلم على أثينيته العرقية والقبلية ولينحاز الى حميته الإسلامية والمساهمة في بناء مجتمع حضري يحمل قيم الدين والعدالة الإنسانية، أي بمعنى أن الحركة الحسينية هي حركة بناء في الدولة العادلة، مقابل الادولة والتي يمثلها وقتها القبيلة الأموية. 
وهذا ما جعل من الحدث الكربلائي حدثاً يحتفي به العقل الشيعي كل عام تذكيراً بمبادئه ونجاحه في تكوين العقل الإسلامي مقابل العقل الجاهلي والذي زال بزوال دولته الاموية، وذلك لفشله في 
تحقيق قيم العدالة الاسلامية. 

المهم في موضوعنا، هو أن ثورات باقي الشهداء الهاشميين تبقى نتيجة للإستلهامات الحسينية، يجادل كل طرف مذهبي في صوابها من عدمه، لكنها لا تتعدى كونها تابعة للرمز الأول (كربلاء) ولا تؤسس لحدث فريد ونموذج مبتكر، مع الاحترام والتقدير لكل تلك الدماء الزكية، وللإمامية رؤيتها الخاصة في جدوى النضال المسلح في ضروف سياسية غير مؤاتية ولا تخدم المجال الإسلامي باعتبار القرن الثاني والثالث الهجريين مجالاً للجهاد المعرفي والديني بعد خسارة سنوات طويلة من انشغال المسلمين في حروب الفتوحات الإسلامية وتأخر بناء منظومة دينية متماسكة نتيجة لعدم استقرار الدولة، وهذا كان أحد الأوجه لفهمهم للرسالة الحسينية ومبدأ عاشوراء. 

الحقبة الثالثة (الحسين من خلال منظور  الدول الشيعية):
التطور المهم والذي انتقلت فيه المفاهيم العاشورائية من المشاريع الثأرية والثورية الى تناول قضية الامام الحسين عليه السلام باعتبارها حدث عاطفي يجرح الضمير الديني ويتفاعل معه بردات فعل عاطفية تأخذ طابع الحزن والحسرة من خلال تأسيس لمواكب للعزاء والبكاء واللطم، وهذا هو الأمر الملفت في دول شيعية ثلاث تشابهت في تناولها للأشكال التعبيرية للحدث الكربلائي. 

هنا نحن نصف مظاهر الحدث في الحقبة الثالثة وليس إصدار أحكام قيمية على تلك المظاهر الاحتفائية والتعبيرية في استظهارها لمعنى الحزن النبيل. 

تأريخ النضال الإسماعيلي يبرز كربلاء في مظهرين: الأول، أثناء مرحلة الدعوة وتحشيد الأنصار، حيث يحرص الدعاة الإسماعيليين على اصطياد المؤمنين الزوار لقبر الامام الحسين عليه السلام واختيار أكثرهم صدقاً في مشاعره وولائه للإمام من أجل إعداده أيدلوجياً حتى يقوم بأعباء الدعوة، ويجعلون من المقام الشريف مكاناً لتوثيق العهود مع الأنصار وأخذ يمين الحلف بقداسة المشهد المقدس. 
المظهر الإسماعيلي الثاني، وهو تسيير مواكب العزاء واللطم في الاسواق ونشر السواد في الأماكن العامة في يوم عاشوراء، وذلك بعد تمكنهم من قيام دولتهم في مصر. 

الدولة البويهية وبعد سيطرتها على بغداد، عملت نفس المظاهر الاحتفائية بعاشوراء الحسين في تطابق مذهل مع التجربة الفاطمية الإسماعيلية، ولتحذوا بعدهما فيما بعد الدولة الصفوية وتزيد على تلك المظاهر بالشبيه والتطبير. 

لعل هذه الظاهرة في اختزال الحدث الكربلائي في جانبه العاطفي، هو ما دعى ثلة من المفكرين الإيرانيين أمثال مطهري وشريعتي لمقاومتها، ومحاولة إرجاع المفهوم الثوري للحادثة مقابل التمظهر العاطفي، والذي أشار إليه الشهيد شريعتي بالتشيع العلوي في مقابل التشيع الصفوي والذي أفرغ المضامين العاشورائية من حمولاتها الثورية. 

ختاماً، تقبل عاشوراء جميع أشكال التعبير بشرط تكامل الجانب العاطفي مع ثقافة وخز الضمير وتثويره باتجاه القيم الاسلامية الأصيلة، وانطباع ذلك على سلوك الفرد الشيعي (شيعتنا من أطاع الله).
مودتي،،،

كاظم الخليفة   
****************







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق