ملف :
الإنسان والجمال
الجزء الثاني
الجزء الثاني
المشاركون:
1. كاظم الخليفة : وعي العالم بين داروين ومايكل أنجلو، العلم والدين والفن في نظر بيجوفيتش
2. جاسم الصحيح : الكائن الجمالي
3. مهدي الرمضان : الجمال بين التماثل و التناغم
4. الشيخ علي الصلاح : الجمال و الفطرة
5. امين الغافلي: الإنسان والجمال.
6. عصام البقشي : هل تتذوق المعدة الجمال.
7. د.ثامر العيثان عقلنة الجمال
8. د.علي الحمد : الجمال والأنماط الذهنية
9. علي اليوسف: ثمالة الفيلسوف و هيام الراعي
10. صادق السماعيل: من القبح نبتكر الجمال
11. علي إبراهيم الحاجي: الحب و الجمال
12. امينة الحسن : الجمال بين المفهوم و الحس
13. محمد سعيد : الجمال والقيم
14. يونس البدر : الشعر و خلق الجمال
جـــاسم
الصحيح :
الكائن الجمالي
ما هو الكائن الجمالي؟ أو بصياغة أخرى: من هو الإنسان الجمالي؟ الكائن الجمالي، هو ذلك الذي يتعالق مع الجمال تعالقًا وجوديًا، أي أن الجمال يمثٌل المحور في كينونته وفي تمثله لذاته وللعالم. فالجمال وفق هذه الرؤية، ليس شيئًا كماليًا، بل ضروريًا، فهو الذي يجعل ظهور الوجود ممكنًا.
محاولتي في 'الكائن الجمالي' هي بغرض الانتقال من دراسة الموضوعات الجمالية وماهية الجمال إلى الانتقال لدراسة ذلك الصنف من الإنسان الذي يتعانق مع الجمال.
الصورتان اللتان سأتناولهما: صورة الشاعر، والصورة الأخرى هي صورة المتصوف. هذه المحاولة هي مقاربة جمالية أكثر منها معرفية، لذلك لن تهتم كثيرًا بمسألة المنهج والرصانة العلمية.
- الإنسان الشاعر:
• الحاسة السادسة/الدلالة المضاعفة:
يقول الشاعر عبدالوهاب أبو زيد: 'الشعر الحقيقي هو الذي يمنحنا أعينًا جديدة نرى العالم بها، ويهبنا آذانًا جديدة تتيح لنا نعمة الإصغاء إلى ما خفي علينا من الأصوات والأنغام والأصداء الواهنة التي كان يغمرها الضجيج، وتحول بيننا وبينها الضوضاء' الشعر هنا يأتي بوصفه وسطًا أو حاسٌة سادسة، هذه الحاسّة الجمالية هي التي ينفتح بها الشاعر على هذا العالم ويتمثٌل بها كينونته، وأن يفرض وجوده ويزاحم الآخرين!. والشعر بوصفه حاسة سادسة، تتيح للشاعر أن يرى ما لا يراه غيره، وأن يسمع ما لا يسمعه غيره، فكأنما دلالات العالم مضاعفة في الشعر، فالشاعر حينما يشاهد لحظة إنسانية (حزن/فرح/فراق/شوق) ويخرجها في قصيدة، فهو يغوص في عمق اللحظة ويستكشف مدلولاتها العميقة، ويعطيها دلالة مضاعفة. فالشاعر إنسان ذو حاسة سادسة جمالية!
• الأثر المفتوح/الذاكرة البديلة:
يكمل أبو زيد: 'الشعر الحقيقي هو ما لا تستنفده قراءة واحدة عابرة ومتعجلة. هو ما لا نستعين في قراءته بذاكرتنا المثقلة، بل ما يخلق ذاكرته الخاصة به في لحظة كتابته الأولى، وفي لحظات قراءته التي لا تحصى'.
القصيدة هي عالمُ قائم بذاته، مفتوح الدلالة، لذلك هو غير منتهي ولا يستنفد، فليس بالإمكان أن نطأ القصيدة مرتين!، فهي تتجدد باستمرار، وذلك ما يعطيها الفاعلية لأن تعطينا ذاكرة جديدة كل مرة نقرأ فيها، ذاكرة جديدة تجلعنا نرى العالم بصورة جديدة، ذاكرة جديدة تعيد ترتيب الأشياء في العالم لتخلق عالمها الخاص بها! وبهذا تكون الذات الشاعرة كل يوم هي في شأن، تنفتح على عوالم جديدة من خلال الشعر.
إذا صَحَّ في كائن ٍ قلبُهُ
تلمَّس خَطَّ استواء الكمالْ
وإنْ شحَّ في كائن ٍ قلبُهُ
تهيَّب في الكون مرأى الجمالْ
بعيدا عن كل التنظيرات الجمالية منذ أفلاطون ومقاييسه الذوقية إلى تولستوي الذي رأى في الجمال مخلِّصا للبشرية من مآسيها الكبرى.. بعيدا عن كل ذلك سوف أتحدث عن الجمال وتربيته من وجهة نظر خاصة.
الجمال في مُطلقه يوجد حيث يصفو الكون في روح الإنسان.. أيْ حيث تشعر النفس البشرية بالتوازن مع الأشياء من حولها.
جمال المرأة /جمال اللغة والموسيقى /جمال الطبيعة /جمال القيم الإنسانية.... كل هذه الجمالات وأكثر.. حينما نحسُّها من العمق، نشعر بالتكامل مع الحياة وكأننا نعيش ما سمّاه ( ابن عربي ) وحدة الوجود.
الجمال هو ذوق الحواس عند الإنسان.. سواءً كان ظاهريا أو باطنيا.. فالجمال في الجمادات هو ظاهري بينما الجمال في الإنسان هو ظاهري وباطني. أي أن الجمال يتجاوز الأبعاد البيولوجية إلى ما هو أعمق.
ولا شك أن الحكم على الشيء فيما إذا كان جميلا أو غير جميل.. هذا الحكم يأتي من أفكار جمالية مسبقة ومخزّنة في قاع اللاوعي منا، لذلك عندما نرى شيئا يتوافق مع هذه الأفكار التي نحملها فإننا نصاب بالدهشة تجاهه، بينما قد يراه غيرنا ولا يندهش لأنه يحمل مقاييس أخرى للجمال في قاع لا وعيه. وهذا يومئ إلى عاطفيَّة الحكم الجمالي أو ذاتيَّته، أكثر مما يشير إلى موضوعيَّته.
لذلك، مثلما أزعم أن الشعر لا يكتمل إلا إذا كان لدى الشاعر وعي ٌ شعريٌّ، فإن الجمال أيضا لا يمكن استشعاره إلا عبر التربية الجمالية للحواس. ولا بُدَّ لشجرة التربية الجمالية أن تأخذ عناصرَ نموِّها من بيئة عصرها مهما امتدَّت جذورها إلى تربة التاريخ حيث لا يمكن بترُها من أصولها كي لا تسقط مع أوَّلِ عاصفةٍ عابرة. فإذا كان الماضي هو الحاضن الأوَّل لجذور هذه الشجرة، فإنَّ الحاضر هو ماؤها وهواؤها وأغصانها وثمارها ورونقها الجميل.
هذه التربية الجمالية يمكن اختزالها في تربية الذائقة لدى الأجيال منذ طفولتها كي تتمكَّن من اكتشاف الجمال في العالم من حولها والوصول إلى أسراره العميقة. وهذه التربية تشكِّل نوعا من التنمية للوجدان والحواسّ لا تقلُّ في أهميَّتها عن التنمية البشريَّة في المجالات العلمية. وهي مسؤولية كبرى تتجاوز المنزل إلى المدرسة والمجتمع بكلِّ مؤسساته ومراكزه الثقافية. لكنَّ الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي، خصوصا لدينا في السعودية حيث يقتصر بناءُ الذائقة في مدارسنا على الشعر فقط بوصفه الجنس الأدبي الوحيد الذي تحتفظ به ذاكرتنا العربية وتمنحه احترامها، دون النظر إلى ما يشهده المجتمع من تحوُّلات إبداعية مفصليَّة أصابته في العمق على صعيد بنيته الفكريَّة منسجمةً مع التغيُّرات في العالم من حولنا.
منذ البداية، انتبهَ واضعو المناهج الدراسية إلى أنّ الشعر يمثِّل جزءًا مهمًّا في تربية الذائقة لأنَّ أجمل تجليَّات الإنسان تأتي في اللغة والأسلوب كما يقول الأسلوبيُّون. ولكن ليس من المعقول أن نقدِّم إنساناً من أبناء القرن الواحد والعشرين في صورةٍ لغويةٍ تعود إلى القرون الوسطى أو العصر الجاهلي، وإنما يجب أن نقدِّمه في صورةِ لغةٍ عصريَّةٍ بوصفه أحد تجلِّياتِ عصره. لذلك، لا يمكن أن نبرِّر تكريس النصوص الكلاسيكية في مناهج اللغة العربية، ولا يعني هذا أنني أرفض وجود مثل هذه النصوص تماما، وإنَّما يجب أن يكون وجودها هامشيا مقابل الوجود الجوهريّ للنصوص الحديثة التي تنتمي إلى الحياة الحديثة. هكذا يستطيع التلاميذ أن ينتموا إلى لحظتهم الزمنيَّة في بناءِ ذائقتهم والتعالق الفني مع عصرهم، ولكنَّهم في الوقت ذاته يبقون مرتبطين بالشرايين والجذور التي تشدُّهم إلى تاريخهم الشعري بوصفه حاملا أساسيًّا من حوامل القيم والتراث النبيل.
إضافةً إلى أهميَّة أن نخلع الظلال الشعريَّة على جسد الشخصيَّة الجمالية التي نريد صناعتها، يجب أن نعلم أنَّ هذه الظلال الشعرية تجاوزت حضورها في اللغة فقط، واستطاعت أن تتسلَّل إلى كلِّ الإبداعات الإنسانية وأخذت لها أشكالا أخرى. لذلك، فإنَّ البناء الثقافي للذائقة الجماليَّة عند الأطفال يحتاج إلى كلِّ المنتجات الفنية من الأدب والسينما والدراما والأغاني الراقية والموسيقا وغير ذلك مما تتمخَّض عنه طاقةُ الإنسان الإبداعية من منجزات فنية وحضارية حيث إنَّ الحضارة هي ما ننقشُهُ نحن البشر على بَشَرَةِ الوقت من آثار عبر امتداد العصور.
وإذا كانت وزارة التربية والتعليم تتحمَّل جزءا من مسؤولية هذه التربية الجمالية كما ذكرتُ آنفا، فهذا لا يُعفي مجتمعاتنا المحليَّة من تحمُّل الجزء الآخر حيث إنَّ النظام الاجتماعي التربوي لم يتجاوز الخطاب الأيدولوجي التقليدي بينما العالم من حولنا يعيش عصر الانفجار المعرفي الذي تمخَّضت عنه مناهج جديدة ذات منظومات جماليَّة تستحقُّ أن نتأمَّلها حدَّ الاعتناق.
خلاصة القول أن الجمال والثقافة توأم سيامي لا يشتبكان في كتف أو قدم، وإنما في قلب وعقل. وكلما اتسعت رقعة الثقافة في جغرافيا الذهن البشري، اتسعت معها مساحة الجمال في الأشياء من حولنا. إذًا، فالقيمة الجمالية هي في الأساس قيمة معرفية تستحق أن نعيش القلق من أجلها وأن نواصل البحث عنها بوصفها الحقيقة :
إذا ما نمتُ نامَ معي سُعالي
ولكنْ لا ينامُ معي سؤالي!
المعرفة لا تنام لأنها لو نامت خسرت حصَّة لها من الجمال.
جمال الظاهر قد يكون طريقا إلى جمال الباطن حيث تنقدح شرارة الحب :
من أُفْقِ وجهِكِ فاضَ الوحيُ وانهمرا
كأنَّما اللهُ قد حَـيَّى بـكِ البَـشَـرا
كأنَّما اللهُ يُغرينا لــــــــــــنَـسْـأَلَـهُ:
أَصُدْفَـةً كانَ هذا الوجهُ، أَمْ قَـدَرا؟!
أهواكِ أهواكِ مقدارَ انهيارِ فـمـي
يومَ التقينَا، وظَهْرُ الأَحْرُفِ انـكَـسَـرا!
أهواكِ مقدارَ ما فيروزُ بهجتِـنا
أضاءَ في أُفُقِ الرُّوحَينِ وانتشـرا
أهواكِ مقدارَ ما عيناكِ أَنْـبَـتَـتَـا
ما بين رمشيهِما، الواحاتِ والجُـزُرا
هل تذكرينَ (عَـلِـيًّـا) في تَـهَـجُّـدِهِ
كأنَّ محرابَـهُ الـتَّنُّـورُ مُـسْـتَـعِـرا!
أهواكِ مقدارَ ما صَـلّـى (أبو حسنٍ)
وِرْدًا، وأكثـرَ مِـمَّـا أَطْعَمَ الـفُـقَـرَا!
الآنَ (عصرُ ظهورِ) الحُبِّ في عُـمُـري
ومن (علاماتِـ)ـهِ أنْ يشطرَ الـعُـمُـرا
ويلتقي حولكِ الشَّطْرَانِ في نَهَرٍ
من العناقِ، فـقُومي نصنع النَّهَرا
طُوبَى لـقلبٍ وإنْ طالَ العذابُ بـهِ
يأبـى سوى الحُـبِّ (مهديًّـا) و(مُنْتَـظَـرَا)
الـحُبُّ يبتكرُ الإنسانَ من عَـدَمٍ
فـطالما انقرضَ الإنسانُ وابْـتُـكِـرا!
الجمال المطلق يتجلى في لذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى. كل المتصوفة الكبار الذين امتلؤوا بهذه اللذة حدّ الفيض.. كلهم اتخذوا من الشعر فضاءً لتجليَّاتهم وأطلقوا طيور الدلالات والرموز في ذلك الفضاء الممتد كمالا وجلالا. كان الدين بالنسبة لهم هو ذلك الحنين الحارق لاكتشاف المنبع الأول الذي صدروا منه قديما وما تزال أرواحهم تتلذّذ بطعم الرشفة الأولى التي ارتشفوها من معينه قبل أن يغادروه. هنيئا لأولئك الواصلين، وتعسا لي!!
حين امْتَـلَأَتْ (هاجرُ) بالعرفانِ
وفَضَّتْ أسرارَ الصحراءْ
قَدَّ النبعُ قميصَ الرملِ
وفاضَ اللهُ على هيئةِ ماءْ
الآنَ يذوبُ العاشقُ في المعشوقِ
فيا إبراهيمُ اذبحْ ابنَكَ..
يا إبراهيمُ اذبحْ فتنةَ قلبِكَ بالأبناءْ!
من أجلِ بلوغِ المعنى
لا بدَّ وأنْ نهبطَ واديَ محنتِنا
ونُضَحِّيَ للحبِّ بـأغلى الأشياءْ
{ { {
يا ربُّ..
أَقِلْنِي من عثراتِ العقل الواهنِ..
عَلِّمْ روحيَ كيف تُجَدِّدُ غابتَها أشجاراً وهواءْ
يا ربُّ..
أنا لستُ أداجيكَ
فلم يبرحْ (آدمُ) يرتكبُ الطينَ،
وما زالتْ ترتكبُ التُّفَّاحَةَ (حوَّاءْ)
كيف ألاقيكَ على جبلٍ من موسيقا!
ثَمَّةَ مَنْ جَرَّفَ
كلَّ حقولِ القَصَبِ الممتدَّةِ في الروحِ
ولم يبقَ نسيمٌ
تَتَفَتَّحُ فيهِ ثقوبُ النَّايِ أزاهيرَ غِناءْ!
في الروحِ خرابٌ أكبرُ من كلِّ بناءْ!
إنَّ سمائي ناقصةٌ
وحمامةُ قلبي ترفعُ منقارَ الوجدِ
لتلتقطَ الأسرارَ
فـأَلْـهِمْني كيف أُشَيِّدُ من أسرار القلبِ سماءْ!
ها أنتَ تغيبُ
ولا يتبقَّى منكَ سوى أنتَ
تُشِعُّ على البُعد كشُعْلَةِ ثلجٍ بيضاءْ
أدنو منكَ وأدنو
حتَّى يتلاشى البُعدُ
وينطفئَ الثلجُ..
وما ثَـمَّةَ للهفةِ ميناءْ
أشعلتُ دواليبَ العمرِ
على سُـكَكِ الشوقِ.. ولاتَ لقاءْ!!
خُذْنــي ظمآنَ إلى ينبوعِ الـبدءِ
وأَوْرِدْني من حيث صَدَرْتُ
فما زالتْ فوق شفاهيَ
نكهةُ رشفتيَ الأُولى طازجةً عذراءْ
يا ربِّي
لا تتركْ في العتمةِ قلبي..
لا تتركْ (يوسفَ) في أعماقِ الجُبِّ
فهذا العالمُ جُـبٌّ ينضحُ بالوحشةِ والظلماءْ
{ { {
ها إنِّـيَ أحملُ أسراريَ صاخبةً
مثل زغاريدَ على شفةٍ خرساءْ
غيبوبةُ وَجْدٍ في الروحِ
تُحَرِّرُني منِّي
فأجيءُ
تُـؤَجِّجُني باللهفةِ (ياءُ) ندائكَ يااااااربِّي
حتَّى تَتَفَجِّرَ في ذاتيَ لهفةُ تلك (الياءْ)!
يتوهَّج داخليَ الـحبُّ
ويولدُ في قلبيَ ما ليسَ يُعَدُّ من الأضواءْ
أينَ أكحِّل ميعادَ الوجدِ بـرؤياكَ؟
تعاليتَ بأنْ تُحْبَسَ
في القُبَّةِ أو في الجُـبَّـةِ أو بين زنازين الأسماءْ!
في (حضرةِ) نجواكَ
تموتُ حروفُ (النفي) بـحنجرتي..
تنتحرُ (اللاءاتُ)..
وأفترشُ الأشواقَ على عتباتِ (الحضرةِ)
طفلاً شحَّاذا يتلمَّس أنْ تُطْعِمَهُ
قطعةَ جدوى من هذا العالمِ..
فأنا لم أبرحْ
أرضعُ من أثداءِ اللاجدوى جدلاً ومراءْ!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق