الاثنين، 17 أغسطس 2015

تويتر.. ماله وما عليه


المشاركون:

1) تويتر والانتقال للعيش في العالم الافتراضي.. مهدي الرمضان
2) لماذا هرب الناس الى تويتر.. رائدة أحمد
3) تويتر والزمان والمكان مابعد الحداثيين.. امين الغافلي
4) الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً.. كاظم الخليفة  



تويتر والانتقال للعيش في العالم الافتراضي. 

مهدي الرمضان. 

منذ حوالي خمسة عشر عاما بدأت غالبية شعوب العالم المتحضر في رحلة جماعية ضخمة للإنتقال من العيش و ممارسة الحياة الإجتماعية الطبيعية بكل جوانبها ومناشطها وفعالياتها في عالم الواقع الملموس كما كان يمارسه الآباء والأجداد على مدى الآلاف من السنين ليتحولوا للعيش في عالم إفتراضي محصور في شبكات إلكترونية للإتصال والتواصل معقدة ومتداخلة تلف بخطوطها وخيوطها مساحة الكرة الارضية. 
إنجذاب الافراد لهذه التقنيات منحهم مزيد من الحرية في الاوقات والقنوات التي يتواصلون عبرها ومهد لهم سهولة تقاطع وتبادل التعارف وسمح لهم بجمع اعداد كبيرة من الاصدقاء من كل أطراف المعمورة قد تصل لعشرات الآلاف بل ربما للملايين من الأصدقاء و المتابعين. 
ومن المعلوم ان للإنسان قدرة إدارة وعقد صداقات في عالمه الملموس مع أفراد عادة لا يتجاوز تعدادهم اكثر من مائة وخمسين شخص. ولكن هذه التقنيات في المقابل حملتهم مسؤليات ادبية بان يمنحوا من اوقاتهم فترات مهمة للإبقاء على دوام التواصل بالكتابة والمحادثة اليومية وبالإطلاع والقراءة المتواصلة لما يصلهم من رسائل قد تتجاوز المئات يوميا. 

سلبت هذه التقنيات متعة التلامس والحديث الحميمي وجه لوجه واقتطعت حصة كبيرة من وقت وجهد المرء التي كانت من نصيب عائلته والاقربين من اصدقاءه ومعارفه في عالم الواقع لتوزعها على اعداد كبيرة من الأشخاص يقطنون عالم إفتراضي غير ملموس لم  وربما لن يراهم أبدا في حياته. 
لا شك ان للعالم الإفتراضي فوائد كبيرة منها فتح آفاق كبيرة للعلم ورفع وتيرة الكسب المعرفي وتوسيع حجم المستوى الثقافي والعلمي ومواكبة الاحداث لحظيا وإبقاء المرء مطلع بشكل وثيق على ما يدور في محيطه الإجتماعي وفي العالم.  
وفي المقابل ولعل الاخطر في سلبيات التحول للعيش في العالم الافتراضي هو الصمت والسكوت عن التحادث والإبتعاد عن التفرغ للعائلة. 
تويتر العظيم، يعد أحد أهم قنوات العالم الإفتراضي وأكثرها صخبا لما إستحوذ عليه من بلايين من المشتركين كل منهم يغرد من على غصن شجرة في غابة عالمية مكتظة. 
لتويتر فوائد كثيرة ولعل أهمها أنه منصة لحرية الفكر وتبادل الآراء ونشر الثقافة وتوسيع مجالات المعرفة بطريقة غير مسبوقة وبسهولة ميسرة. فيمنح كل مشترك مساحات حرية كبيرة بدون حواجز ويفتح له أبواب بدون عوائق ليعبّر المرء عن مكنونات نفسة وينشر عصارات أفكاره ويتناغم مع غيره ممن يشاركونه رؤاه وكل ذلك بطريقة لم يكن يحلم أن يطالها سابقا. 

ولكن في المقابل ينطوي تويتر على فخاخ ومصائد قد لا يعيها إبتداء المغرد خاصة في بيئاتنا الثقافية المحافظة والغالب عليها ولا يزال للأسف الإنغلاق الإجتماعي والسياسي والأهم الإنغلاق الديني. 
ففي المجال الثقافي، يقع المغرد في فخ محاولة إرضاء متابعيه بإلتزام التغريد المستمر الغير منقطع وفي ذلك صيغة من الإلتزام الضاغط قد يفقد على أثرها حريته وسيطرته على وقته ويشعر بأنه مرتهن لا يمكنه التملص والتخلص من توقعات وتطلعات متابعيه لمزيد من العطاء الذي لا يجب أن ينضب. 
حتى في مجالات الفكر، قد يقع في فخ دكتاتورية المتابعين من لديه متابعين كثر بأن عليه أن يخضع وينصاع لتوجهاتهم ولإرضائهم على حساب مرونته الفكرية ويخنع لسلطانهم وتوجيهاتهم ويفقد قدرته على تغيير مواقفه أو الإعلان عما قد يستفز غالبيتهم. 
ولعل الاسوء في تجارب تويتر وبسبب إنغلاق فكري يعاني منه المجتمع ان يدخل المغرد المتحرر فكريا في صدام مباشر مع السلطات الدينية والسياسية قد تؤدي به ليقبع خلف قضبان السجن. 

كما قد يدخل في جدال ديني أو سياسي عقيم يضطره أن يتلقى شتائم وبذاءات بعض متابعيه أو غيرهم. 
ليس كل المغردين في تويتر بلابل يشدون بالانغام الشجية أو مفكرين عمالقة يخاطبون الوعي والعقل بل فيه الغربان والبوم النواعق في الخرائب وفيه ما هب ودب من السفاهات والتفاهات المغيبة للوعي والرشد.
يضم تويتر بين جنباته من يحمل أسماء مستعارة ليروج الكراهية ويمجد الإرهاب ويفاخر بالقبح ويعلي شأن البشاعة. 
وقد يقع المغرد في مصيدة طلب جمع المتابعين بأي ثمن وفي سبيل هذا الهدف يضطر أن ينحدر لمستوى فكري أقل مما يرتضيه لنفسه من خلال تقديم أعداد كبيرة من تغريدات لا قيمة فكرية أو معرفيه لها.
تويتر فوق ذلك هو للأسف مرتع وساحة لتمجيد التافهين من المشاهير الفاقدين لكل قيم الفكر والثقافة. 
ولكن، لا يمكن إرجاع التاريخ او العيش خارجه بالتخلي تماما عن تقنيات العصر وللمرء الحصيف ان  يقتنص حسنات العالمين الواقعي والإفتراضي وقطف ثمرات كلاهما بحسن إدارته الوقت والسيطرة على الذات كي لا يستحوذ عليه العالم الإفتراضي بسحره و بفنطازيته ويحوله من كائن حر يمتلك زمام أموره لكائن مرتهن ومستعبد. 
الحرية أثمن من أن يتنازل عنها المرء لأي سبب حتى وإن كان لتويتر العظيم. 


-----------

لماذا هرب الناس الى تويتر؟

رائدة أحمد 

تويتر موقع تواصل كأي موقع تواصل آخر الفرق انه يرصد الحدث لحظة بلحظة وبأسرع من تحضير علبة إندومي فقبل أن يصحو وزير الإسكان الجديد من نومه ذات يوم تم تحليل وتدقيق كل تغريدة في حسابه وقبل أن يقوم احدهم بمسح تغريدته يتم تصوريها وإقامة دعوى عليه بغرض الإساءة .
🔸هل تويتر فعلا منصة حقيقية للتعبير عن الرأي؟ ام انه ساحة واسعة للعب الجهات اﻻستخبارية في صناعة وتوجيه الرأي العام؟
تويتر منصة للتعبير زائد ان الحكومات استخدمته أيضاً لتوجيه الرأي وإشغال الشعب عن ماهو مهم بضربة هنا وتفجير هناك وتصفية رجل أمن هنا 
لكن لازال الشعب السعودي خاصة يحتاج مائة عام على الاقل ليتقبل ثقافة الرأي الآخر ومائة عام أخرى ليتعلم آداب الحوار ومائة ثالثة لكي يتعلم احترام الآخرين ..
تويتر أصبح في متناول الصغار والكبار والجهلة والمرضى النفسيين والمخابرات فيجب أن نكون حذرين في اختيار الكلمات وطريقة الرد والتعامل والتجاهل ان لزم الأمر .
🔸هل تؤيد إغلاق  تويتر بعدما تسبب من اختراقات وتجنيد الشبان في الجماعات اﻻرهابية؟
لا أؤيد ذلك أبداً اما الشباب فيجب توعيتهم بطرق اخرى 

🔸كيف تصف تجربتك في تويتر؟؟
دخلت تويتر من مايقارب خمسة أعوام كفضول فقط ولم أكن أنوي المشاركة ولكن شيئاً فشيء وجدت نفسي أغوص في بحره ،ووجدت انه منبر جيد جدا لتوصيل أي رسالة وهذا ماحدث فعلا فالضغظ الإعلامي  في موقع تويتر اطاح بعدد لابأس منه من الأشخاص زائد انه سلط الضوء على الكثير من المسكوت عنه..بعد احداث القديح وبعد كتابة عدة تغريدات تتسم بالهجوم كما أسماه الطرف الاخر والحدة تم إخضاعي لمكالمة تحقيق مخفف كما أُحب أن أُسميها لكني  لازلت اعتقد ان هناك طرق كثيرة نستطيع قول الحق فيها بأساليب مواربة ..
أيضاً لاحظت الكثير ممن يرسل على الخاص بطلب التحدث بموضوع معين وطرحه على الساحة..
حسابي متنوع وحسب الجو العام فأنا اكتب عن الحب تارة وعن الإنسانية تارة اخرى وفي المناسبات الخاصة أجد نفسي تلقائياً مع الحدث ..تم طلب ان أغلق الحساب وان ابدأ في الكتابة مع صحيفة ولكنني رفضت ...


أخيرا اعترف انا الموقعة أدناه انني مصابة بالإدمان على موقع تويتر وحاولت الشفاء منه ولكنني لم استطع🎶

----------

تويتر والزمان والمكان مابعد الحداثيين.

أمين الغافلي

الزمن مابعد الحداثي مفارق للحداثي ،فالزمن الحداثي دفع الرأسمالية على التركيز على انتاج السلع  وتسويقها ، وكانت الجودة في الزمن الحداثي أحد معايير التسويق الناجح.
أما الزمن مابعد الحداثي  فإنه لا يقتصر على رمي السلع المستهلكة فاقدة الجودة ،بل دال على رمي القيم وأنماط العيش والعلاقات الاجتماعية المستقرة في النفاية.

في الزمن مابعد الحداثي تتلاشى القدرة على ضبط الزمن وهذا يعني نفي المكان المتشظي وتحويله إلى مكان متوحد(العولمة) جغرافيا وثقافيا وجماليا واقتصاديا.
يصحب ذلك نفيا للهويات الاجتماعية المتماسكة  وحلول الهويات الفردية العابرة التي تستجيب لاغراءات الذائقة الجمالية مابعد الحداثية ،فهي مستعدة لرمي الكتب والصحف الجادة والاغذية المحلية النافعة،والملابس الرامزة للهوية الاجتماعية/الوطنية من أجل الامساك بالزمن المندفع نحو أمكنة تملك القدرة على تغيير واقعها الجغرافي كله واعادة لملمته ليتناسب مع متطلبات المرحلة الرأسمالية الراهنة.
تويتر ينتمي للزمن مابعد الحداثي ،الذي مجد ويمجد رمي الكتب المنهجية النقدية الجادة والقراءة الجمالية المصاحبة لها.

في تويتر،كل يوم يتعامل المغرد مع ذائقة أخرى خلقتها فضاءات اجتماعية جديدة وأزمنة مغايرة ،تعدد الذائقات الأخرى تصيب المغرد بحالة غضب دائما ،يصاحبه أحيانا شتم وعنف وتهديد.
تويتر ما هو الا استجابة لمفهوم ضغط الزمان والمكان مابعد الحداثيين كما صاغهما المفكر اليساري ديفيد هارفي.ومن صفاتهما تمجيد السريع و الزائل والهابط استجابة لشروط البورجوازية الرأسمالية الساعية إلى استملاك إرادة البشر كي يسهل توجيهها نحو الغايات الاقتصادية والثقافية المنشودة.
أظن أن جاك دورسي مؤسس تويتر استوعب بذكاء مفهومي الزمان والمكان مابعد الحداثيين،فشرع في تأسيس تويتر بمواصفات تتماشى مع مفهومي الزمان والمكان مابعد الحداثيين.
فهو أدرك أن الزمن الحداثي امتص قدرة الانسان على القراءة الجادة الطويلة والحوارات الاجتماعية الشفهية ،وأدرك كذلك حالة الاغتراب الاجتماعي والديني والسياسي والديني التي أحدثها الزمن الحداثي ،فعمد على تأطير التغريدة في 140 حرفا كي يكون مغرد مابعد الحداثي قادرا على توظيف قدرته البصرية والإدراكية على التفاعل معها.

---------------


[١] "الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"
كاظم الخليفة 

بخلاف ما يتطلبه برنامج التواصل الاجتماعي "تويتر" من تقاليد صارمة في الإيجاز، سأحاول في هذه المقالة ان أُسهب في الحديث عنه؛ تارةً باعتباره ينضوي كظاهرة تحت علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، ومن جهة أخرى ينتمي إلى النقد الأدبي الرقمي لأنه "نص". 

فمن خلال علم الإجتماع أضحى هذا اللون من وسائل التواصل الاجتماعية، كيان واقعي يشكل بأدواته وتقاليده وجماهيره مجتمع افتراضي يجب دراسته من أجل الكشف عن تأثيره على العالم الواقعي، وكذلك للتنبؤ بمستقبله كمحرض لبرامج تواصلية أخرى تنطلق من أرضيته. 
فتويتر يأتي في زمن الإحلال التقني بعد برنامج "الفيس بوك"، يتشابهان في أن لكل منهما مجتمعه، ويفترقان في مفهوم الرسالة. فإذا جاز لنا القول أن الفيس بوك ينقل المعرفة، فتويتر يكون ناقلاً للمعلومة. لذلك ينتشر استخدامه في وسط تغيب عنه المعلومة ولا تتاح في القنوات الطبيعية كالتلفزيون والصحف، فبالتالي يصبح بمساحته المحدودة متوافقاً مع الغرض الذي استخدم من أجله (١٤٠ حرف). فالمعلومة التي تُنقل بواسطة تويتر، هي ما يعرف بـ "الصنعة الاجتماعية" حيث لها علاقة بالواقع الاجتماعي، ووظيفة الكاتب من هذا المنظور هي تمثيل العالم والشهادة عليه من خلال تبليغ رسائل اجتماعية أو فكرية معينة. 

أما باعتباره "نص"، فيندرج "تويتر" ضمن النصوص الرقمية التي عمل عليها علماء اللغة واللسانيات والنقد الثقافي من أجل تأسيس أصول مفاهيمية وقواعد ينبني عليها الكثير من النظريات لأنها، النصوص الرقمية،  غيرت وبشكل جذري طريقة التواصل والتفاعل بين النص وقارئه. لذلك سنحاول في هذا الجزء من المقالة أن نذهب إلى الدكتور محمد مريني وكتابه "النص الرقمي وإبدالات النقل المعرفي" لنتعرف على ما عملته النصوص الرقمية، وتويتر من ضمنها، من ثورة معرفية وتواصلية. 
للحديث بقية،،، كاظم الخليفة


[٢] "الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"

(الثورة الرقمية وإبدالات الكتابة والقراءة)
١- المعرفة الخلفية، من موهبة إلى ذكاء الآلة:
يرى المريني أن المتكلم في الخطاب الشفهي كان يضطلع بإنتاج النص، في حين يقوم الراوي بنقله إلى مكان أو زمان آخر. فهي عملية تواصلية تتم بطريقة مباشرة يتم من خلالها استحضار الرموز غير اللفظية كالتنغيم وأشكال التلوين الصوتي من أجل التأثير في المستمع. أما حينما بدأ الإنسان بالاعتماد على الكتابه، فهو قد استعمل اليد في نقل النص. وقد استلزمت هذه العملية حضور وسائط أخرى، تتمثل في القلم والورق أساساً. وفي مرحلة سابقة كان الاعتماد على الحجر والصفائح وعسب النخل. لكن مع توظيف الحاسوب في الكتابة واستغلال الفضاء الشبكي، أضيف ملمح آخر لعملية النصوص وهي إمكانية التحكم في النص وتوجيهه وفق متطلبات الكاتب والقارئ معاً. فبلمسة واحدة يمكن الانتقال من صفحة إلى أخرى، أو العمل على تكبير النص أو البحث فيه عن تواتر كلمة من الكلمات. وليس هذا فقط، فمحمد سناجلة في كتابه "رواية الواقعية الرقمية" يقول بأن مفهوم المؤلف الروائي في الأدب الرقمي قد تغير (فلم يعد كافياً أن يمسك الروائي بقلمه ليحط الكلمات على الورق، فالكلمة لم تعد أداته الوحيدة. فعليه أن يكون مبرمجاً أولاً، وعلى المام واسع بالكمبيوتر ولغة البرمجة، كما عليه أن يعرف فن الإخراج السينمائي وفن كتابة السيناريو والمسرح). 
للحديث بقية،،،


[٣] الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"

٢- الوضعية الاعتبارية للمؤلف، من التألق إلى التهميش:
إذا كانت الفلسفة البنيوية قد أعدمت المؤلف رمزياً، فإن الرقمية قد أعدمته فعلياً! بهذه الجملة المستفزة يتنبأ محمد مريني لمستقبل المؤلف فكيف يتم ذلك؟ 
في المرحلة الشفهية كان فيها المؤلف يحضى بوضعية اعتبارية مهمة، وفيها ارتبط الإبداع بالقدسية؛ لذلك شاعت فكرة الإلهام من قوى غيبية خفية. لكن عند ظهور الطباعة فيما بعد، فقد نزل المؤلف من هذا البرج العالي وأصبح شخصاً عادياً بسبب أن الكتاب صار متاحاً وفي متناول الفئات ذات الدخل المحدود، بعد أن كان الكتاب المخطوط يمتلكه النخبة فقط. ثم إن التطور المتواصل للعلوم الإنسانية اصاب كبرياء المؤلف بجروح متلاحقة: فالماركسية ركزت على أهمية الفاعل الجماعي في خلق الأعمال الثقافية بشكل عام. معنى ذلك أن المؤلف الحقيقي للأعمال هو المجتمع، وليس المؤلف الفرد. الجرح الثاني الذي سيصيب المؤلف سيأتي من نظرية التحليل النفسي (إن ما يكتبه المؤلف لا يمكن النظر إليه بوصفه ترجمة أمينة لشعوره الخاص ونواياه الواعية، فالمخزون الفعلي لحقيقة النص هي الحقيقة التي تبقى متوارية في لا شعور المبدع)، ويعلق على هذه المقولة محمد المريني بقوله: لذلك أصبح المؤلف من منظور هذه النظرية إنساناً غير عادي، أصبح شاذاً، أو مريضاً نفسياً؛ إذ وراء الإبداع الأدبي حتماً عقدة مرضية تتمثل في عقد أوديب.

[٤، والأخيرة] "الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"

الجرح الثالث العميق الذي سيلحق المؤلف سيأتيه من الفلسفة البنيوية. لقد أعلن البنيويون بلا تردد عن موت المؤلف (عملية القول وإصدار العبارات عملية فارغة في مجموعها، وانها يمكن أن تؤدي دورها على أكمل وجه دون أن تكون هناك ضرورة لإسنادها إلى أشخاص متحدثين: فمن الناحية اللسانية ليس المؤلف إلا ذلك الذي يكتب، مثلما أن الأنا ليس إلا ذلك الشخص الذي يقول أنا. إن اللغة تعرف الفاعل ولا شأن لها بالشخص). 

المؤلف الرقمي: بعد هذه الجروح الثلاثة التي أصابت المؤلف في الصميم، كما يعددها محمد المريني، ستأتي نهاية المؤلف من التحولات العميقة التي احدثتها الرقمية على عملية التواصل المعرفي والثقافي والأدبي في العالم المعاصر. فطبيعة النص الرقمي تكرس الطابع التفاعلي للعلاقة بين الكاتب والقارئ؛ إذ لم يعد المؤلف يمتلك وحده سلطة القول. من جانب آخر، يلاحظ محمد مريني تراجع "مشاعر الوفاء" التي كانت تطبع علاقة الكلاب بالقارئ في النشر الورقي نتيجة لإنخفاض التكلفة في النقل الرقمي وسرعة الإنجاز والتي عملت على فتح الباب على مصراعيه للولوج إلى عالم النشر من قبل الكثيرين من الأفراد المهتمين. 
أما أهم نقطة عملت على إلحاق الاذى النفسي بالمؤلف، فهي انحسار موهبة الكاتب أمام ذكاء الآلة؛ ذلك أن النص الرقمي لم يعد أسير الكتابة الخطية، بل أصبح مجالاً لتلاقي الخط والصوت والصورة، هذا فضلاً عن العمليات الحسابية والمنطقية. وهذا يكرس فكرة نهاية المؤلف. 



ايشي.. اخر رجل من قبيلته (موضوع عادات الشعوب)



إيشي .. آخر رجل من قبيلته ــ 1 ــ

عماد بوخمسين- عكاظ


(1)


في ذات صباح من سنة 1911م، سمع صاحب مزرعة للمواشي نباح الكلاب، حمل بندقيته ونادى إخوته وخرج ليستطلع الأمر. توجه نحو الكوخ المخصص لذبح الماشية، كانت الكلاب تنبح عند المدخل. دخل الإخوة الثلاثة بحذر، شعروا بحركة خلف أحد الذبائح المعلقة، بدأوا بالصراخ والتهديد «أخرج و إلا أطلقنا النار».


حاول اللص الفرار ولكنه وقع على الأرض فصوبوا بنادقهم نحوه. امتلأت ملامحه بالرعب، لم يجب على أسئلتهم وإنما بقي صامتا ينظر نحوهم بذهول وخوف. كان يرتدي رداء من قطعة واحدة مصنوعا من جلد الغزال و في يده سكين مصنوعة من حجر الصوان. وملامحه وجسمه الناحل تدل على أنه لم يأكل وجبة جيدة منذ شهـور.


ظنوه في البداية مكسيكيا ولكن بعد أن تأملوا وجهه جيدا عرفوا أنه هندي أحمر. تمتم أحدهم: ظننت أن الهنود الحمر انقرضوا في كاليفورنيا!.


اتصلوا بمأمور الشرطة حيث قبض على الهندي و وضعه في السجن، كان المأمور متعاطفا مع الرجل وكان يقصد من سجنه حمايته لا عقابه حتى ينظر في أمره. قدموا له الطعام والشراب وانتشر الخبر في الصحف المحلية واجتمع الناس عند باب السجن يريدون أن يلقوا نظرة على آخر هندي أحمر بري (Wild Indian) في ضواحي مدينتهم.


لم تفلح جميع محاولات التفاهم والتواصل مع هذا الهندي المحتجز، أرسلوا لأحد الهنود الحمر المتمدنين والذي تلقى تعليمه في مدارس الرجل الأبيض ولكنه فشل كذلك في التواصل معه فهما من قبيلتين مختلفتين والكلمات المشتركة بينهما قليلة.


انتشر الخبر في الصحف الأمريكية تحت عنوان: القبض على آخر هندي بري في كاليفورنيا. كان حديث الناس في مدينة لاسن بيك التي تم القبض عليه فيها. بعد أيام جاء مبعوث من جامعة كاليفورنيا إلى قسم الشرطة ومعه خطاب يطالب فيه باستلام إيشي لغرض الدراسة. كان عالِم الانثروبولوجيا الشاب والمتحمس الدكتور ألفرد كروبر قد قرأ عن الحادثة في الصحف، وبما أنه يدير المتحف الانثروبولوجي الذي أنشئ حديثا في جامعة كاليفورنيا فقد وجد من المهم أن يستضيف هذا الهندي الكاليفورني الأخير فهو سيمثل سبقا علميا مهما. هكذا أرسل مساعده الباحث واترمان لإحضاره.


سمح لواترمان بمقابلة إيشي في الزنزانة وكان يحمل معه كتيبا يتضمن كلمات مختلفة من عدة لغات و إلى جوار كل كلمة اسم القبيلة التي تتحدث بها بالإضافة إلى معناها الإنجليزي.


بعد ترديد عدة كلمات على مسامع إيشي بدون أي ردة فعل، وصل الباحث الجامعي إلى كلمة سيويني Si wi ni (وتعني خشب الصنوبر ) هنا تهللت ملامح الهندي وأخذ يردد نفس الكلمة. لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الهندي منذ سنوات. هكذا تم التعرف على قبيلته، إنها قبيلة «ياهي» التي ساد الاعتقاد بأنها انقرضت منذ عقود من الزمن.


تم توفير ملابس جديدة لإيشي تشبه ملابس الرجل الأبيض، ما عدا الحذاء وربطة العنق فهو لم يتمكن من ارتدائهما ربما لأنهما يشبهان القيود. وقف الإثنان على محطة القطار وخلفهما اجتمع الكثيرون من أهل البلدة ومعهم فرقة موسيقية لتوديع إيشي الرجل الهندي البري كما اشتهر عنه.


وفي لحظة ركوبه القطار توجهت سيدة تحمل سلة طعام وفواكه كبيرة إلى إيشي وأعطته إياها وهي تقول: هذه هدية من نساء مدينة لاسن بيك، نتمنى لك حياة سعيدة تعوضك عن آلامك وعائلتك. ونتمنى أن تعرف أن لك أصدقاء من البيض، وليس كلهم أعداءك.


لم يفهم إيشي شيئا من كلماتها ولكن أخذ السلة بابتسامة. وانطلق القطار إلى جامعة كاليفورنيا ليبدأ حياة جديدة كليا.


(2)


كان الدكتور ألفرد كروبر في الانتظار في محطة القطار. كروبر هو من الجيل الأول من الانثروبولوجيين الذين تخرجوا من جامعة كاليفورنيا بعد افتتاح قسم الاثروبولوجيا فيها.


كان يجيد عدة لغات أوروبية بالإضافة لعدد من لغات الهنود الحمر من بينها لغة قبيلة الياهي التي ينتمي إليها إيشي. وكان يحمل على عاتقه بالإضافة إلى بعض رفاقه هموم توثيق تراث الهنود الحمر وأساطيرهم و معتقداتهم بعد أن أيقن أنهم في الطريق إلى الفناء تماما.


تكمن أهمية الهنود الحمر بالنسبة للانثروبولوجيين في أنهم يعتبرون الرابط بين الإنسان المعاصر و إنسان العصر الحجري، حيث إن معيشتهم واعتمادهم التام على الطبيعة يشبه إلى حد كبير حياة الإنسان من العصر الحجري.


استقبل الدكتور ألفرد كروبر ضيفه الجديد بترحاب و إكرام وتبادل معه بعض العبارات بلغة الياهي. وأخذه إلى متحف الجامعة حيث سيقيم إيشي لبقية حياته في غرفة ملاصقة.


توقف إيشي طويلا أمام ثور البايسون المحنط في المتحف، حياة الهنود الحمر كلها كانت مرتبطة بهذا الحيوان الوادع رغم ضخامته. وأثناء التجول في المتحف وجد شيئا مثيرا، جرة فخارية. التفت إيشي إلى كروبر وقال: أعرف هذه الجرة، صنعتها جدتي. إنها جرة من تراث قبيلتي، قبيلة الياهي.


أكد كروبر ما قاله إيشي ولم يفوت الفرصة لكي يسأل بفضوله المعرفي: ما معنى شكلها و إلى ماذا يرمز؟


أجاب إيشي: قاعدة الجرة الضيقة تمثل ضيق نظرة الإنسان في طفولته و وسطها الواسع يمثل غروره عندما يكون له رأي، وفوهتها تمثل تحليق الروح بعد أن يكبر و ينضج.


(3)


حان الوقت ليمنح الهندي الجديد إسما فإلى الآن لا أحد يعرف إسمه. يقول كروبر إن من عادات الهنود الحمر أن لا يصرحوا بأسمائهم للغرباء، ربما لذلك علاقة بالسحر أو ما شابه، وهكذا قرر كروبر أن يطلق على الهندي الضيف اسم «إيشي» و يعني رجل بلغة الياهي، والتصق به هذا الاسم حتى وفاته.


كان إيشي يتوقف مذهولا أمام أشياء كثيرة في بيت الرجل الأبيض. كان يمسك بمقبض الباب و يفتحه و يغلقه عدة مرات، وكلما رأى مقبض باب يفتحه ويغلقه. وكذلك يفعل مع الستائر على النوافذ، كان يراها شيئا إعجازيا. وأثار استغرابه جدا عدم وجود فتحة في أسقف الغرف، وموضع الغرابة في ذلك أن إيشي يقول إذا أشعلت نار الموقد في وسط الغرفة فأين سيذهب الدخان؟! وفي كل ذلك يظهر القياس بين بيت الرجل الأبيض وخيمة الهندي التقليدية Tipi.


أما العصفور العملاق الطائر فكان شيئا خارقا. بقي يحدق في تلك الطائرة كثيرا والتفت إلى كروبر الذي كان يسير إلى جواره في الشارع و سأله: سالدو Saldo ؟ وهي الكلمة التي يطلقها الياهي على الرجل الأبيض. أي هل هذا من صنع الرجل الأبيض كذلك؟ قال كروبر نعم. وعلق إيشي: إن هذا الزمن هو زمن الرجل الأبيض.


بعد حوالى الشهر من وصول إيشي إلى جامعة كاليفورنيا واستقراره فيها برعاية د. ألفرد كروبر، جاء مبعوث حكومي من إدارة شؤون الهنود الحمر في واشنطن يطالب بإرسال إيشي إلى إحدى المحميات الهندية (أنشأتها الحكومة الأمريكية كحل لأزمة الهنود الحمر ) لكي لا يتعرض للاستغلال في الجامعة. رفض كروبر ذلك رفضا قاطعا، وقال هل تريد أن ترسله إلى محميات الموت البطيء ؟، ألا يكفي الملايين الذين قتلتموهم من الهنود الحمر، حتى تحاول أن ترسل هذا المسكين لتدمر حياته و يلقى حتفه؟.


أجاب الممثل الحكومي: بأي صفة تجبره على البقاء عندك؟ هذا استعباد ممنوع حسب الدستور الأمريكي، لا يمكنك احتجاز شخص لديك ضد رغبته؟


أجاب كروبر بسرعة بديهة: إنني الآن قد وظفت إيشي في المتحف الانثروبولوجي التابع لجامعة كاليفورنيا بوظيفة مساعد باحث وبراتب أسبوعي.


والتفت كروبر إلى إيشي الذي كان حاضرا وسأله بلسان الياهي: هذا الرجل يريد إرسالك إلى محمية ترعاها حكومة الولايات المتحدة، وأما أنا فأريدك أن تعمل معي في الحفاظ على تراث شعبك في هذا المتحف. أيهما تختار؟


أجاب إيشي بأنه يريد أن يعيش ويموت في هذا المكان. ترجم كروبر هذه الإجابة مما أنهى الجدال. انصرف الرجل وهو ينظر إلى كروبر نظرات شك في صحة ترجمته!.


يصف كروبر إيشي بأنه كان سمحا غير عدائي بتاتا، وكون صداقات مع الأطفال في الحي المجاور للمتحف. وبسبب وجوده كثر زوار المتحف و اشتهر كروبر ومتحفه في أنحاء أمريكا.


بدأ إيشي يتكلم الانجليزية بشكل بسيط، وكان يتجول في الجامعة و يذهب إلى المستشفى الجامعي كثيرا وهناك كون صداقة مع الدكتور الجراح بوب الذي كان طبيب إيشي الشخصي كذلك.


دخل ذات مرة إلى غرفة الموتى وغرفة المشرحة حيث كان بعض الأطباء يقومون بتشريح الجثث بغرض البحث العلمي والتدريب. أرعبه ذلك كثيرا وأثار فزعه وأبدى استغرابه كيف يفعل الرجل الأبيض ذلك بأبناء قومه الموتى، وقال إنه لا يريد أن يحدث له مثل ذلك بعد أن يموت فهذا سيجعله يتوه ولا يصل إلى أرض الأسلاف. كان يريد بعد موته أن تحرق جثته ويغني له أصدقاؤه لكي تصل روحه بسلام إلى أرض الأسلاف الأبدية.


كثيرا ما يذهب إيشي إلى غرف المرضى المنومين في المستشفى ويبدي تعاطفه معهم ويرقص ويغني لهم رقصة الشفاء الهندية حسب تقاليد قبيلته..





---------------------------

إيشي .. آخر رجل من قبيلته

عماد بوخمسين - عكاظ ٢




في جلسة هادئة، سأل الدكتور كروبر إيشي: ماذا جرى لأهلك؟ حدثنا عن طفولتك؟


في منتصف القرن التاسع عشر، قبل ولادة إيشي، كان تعداد قبيلة ياهي حوالى 400 فردا. ولكنها كانت فترة منحوسة بالنسبة للهنود الحمر في كامل القارة الأمريكية، وبالذات في كاليفورنيا.


جاءت حمى البحث عن الذهب. زحف الآلاف من المستوطنين البيض إلى مناطق نائية بحثا عن الذهب، ويحملون في رؤوسهم معتقدا راسخا بأن الإله قد منحهم هذه الأرض وأن القدر يقضي بأن تكون لهم بكل خيراتها، وكل ما سيمنعهم من ذلك فلهم الحق في القضاء عليه. أما هذا العِرق الأحمر فمقدر له أن يبيد.


لم تكن هذه الايديولوجيا فقط هي المحرك لعمليات القتل والتطهير العرقي، بل إنهم كانوا يعتبرون هذه الشعوب البدائية في درجة أدنى من البشر كأنهم نوع من القردة الذكية أو ما شابه.


كان المستوطنون يصطادون الغزلان البرية ببنادقهم بشكل جنوني. عندما تموت الغزلان أو تهرب من منطقة يتأثر التوازن البيئي فتختفي حيوانات ونباتات أخرى معهم. أكبر المتضررين هم الهنود الحمر، بالذات في موسم الشتاء. وكلما انتقل الهنود لمكان بعيد، لحقهم المستوطنون بحثا عن الذهب أو بغرض صيد الطرائد.


ولو تجرأ الهنود الجوعى على أخذ شيء من أبقار المستوطنين ليسدوا حاجتهم ويطعموا أطفالهم، يكون الانتقام بقتل العشرات من الهنود الحمر دفعة واحدة.


في كاليفورنيا كان اصطياد الهنود قانونيا بل مربحا كذلك. كانت حكومة مقاطعة كاليفورنيا تدفع 5 دولارات مقابل كل رأس هندي مقطوع. وتدفع 50 سنتا لكل فروة رأس مجتزة. في سنة 1854م فقط، دفعت الحكومة الفيدرالية إلى مقاطعة كاليفورنيا تعويضات بقيمة مليون دولار مقابل ما قدمه صيادو الهنود من رؤوس أو فروات رؤوس مقطوعة.


كان هناك أفراد من البيض رفعوا أصواتهم بالاعتراض على هذا العنف الهمجي ولكن ضاعت أصواتهم بلا طائل. بل إن صيادي البشر أولئك كانوا يعاملون معاملة الأبطال والفاتحين في بلدانهم.


*****


تحدث إيشي بأسى إجابة على سؤال الدكتور كروبر. روى كيف رأى في طفولته والده يقتل أمامه بطلقات نارية في ظهره عندما هجم مجموعة من المستوطنين البيض عليهم في قريتهم الوادعة. ظهروا من خلف التل فجأة يحملون بنادق ويصرخون ويطلقون النار على أي شيء يتحرك.


انتقلت القبيلة على إثر هذا الهجوم إلى مكان آخر وتوغلت في الغابة أكثر. ثم بعدها بسنوات حدث الهجوم التالي. العشرات سقطوا كذلك.


مرة أخرى انتقل الناجون إلى مكان أبعد وأكثر وعورة. لحقهم المستوطنون بعدها بسنوات ليقتلوا ما تبقى منهم. بقي على إثر هذا الهجوم الأخير ثلاثة أشخاص، إيشي وأمه وأخته.


طابق الدكتور كروبر الوقائع التي ذكرها إيشي مع الوقائع التي يعرفها البيض من سكان تلك المنطقة، والتي تعرفها الحكومة الأمريكية جيدا كذلك. فوجدها صحيحة وعرف سنة وقوعها.


واصل إيشي حديثه فذكر أنه عاش عدة سنوات مع أمه العجوز وأخته بين الجبال في منطقة يصعب أن يصل إليها أحد. كان الثلاثة هم آخر من تبقى من قبيلة ياهي. يشربون من النهر ويأكلون مما تجود به الأرض، و يسكنون في كوخ خشبي صغير يشبه الكوخ الذي صنعه إيشي بجوار المتحف الإنثروبولوجي.


لم تتركهم عوادي الزمان طويلا. جاء مجموعة من البيض وأطلقوا النار عليهم. حاولوا الهـرب، سقطت الأخت قتيلة برصاصة في الظهـر. أمسك إيشي بأمه العجوز وبدأ يجري، رصاصة أخرى دخلت ظهرها. واصل الجري حتى تمكن من الفرار. ماتت أمه بين يديه.


عاش إيشي بعدها ثلاث سنوات لوحده في البرية. لم ينطق بكلمة مع مخلوق حي. دفعه الجوع في إحدى الليالي من سنة 1911م لأن يدخل إلى مخزن لحوم في إحدى مزارع الرجل الأبيض... فقبض عليه.


صمت إيشي. كانت لحظات مؤثرة. الآن الضحية يتكلم وليس المجرم. الآن الأحداث يرويها القتلى وليس الجرائد الرسمية.


استطاع الدكتور كروبر من خلال الأحداث التي أوردها إيشي ومن خلال الفحص الطبي أن يقدر عمره. كان في لحظة القبض عليه يبلغ من العمر 50 سنة.


*****


جهـز د. كروبر جهاز الفونوغراف وأجرى تجربة تسجيل لإيشي ليعرف وظيفة الجهاز والغرض منه. ثم بدأت جلسات تسجيل صوتي طويلة على اسطوانات شمعية، كان مرض السل قد بدأ يؤثر على صحة إيشي مما جعل جلسات التسجيل متقطعة على مدى عدة أيام.


«حدثنا عن بعض القصص الشعبية التي يتداولها الهنود الحمر في قبيلة ياهي» بدأ كروبر بالحديث.


فيسرد إيشي قصة حب لطيفة اسمها قصة حب بطة الخشب Wood Duck Love Tale عن رجل اسمه أوتوتني U-Tut-Ne يبحث عن زوجة فيغني أغنية جميلة هي أغنية وينوتي Wino-Tay Song لاجتذاب الزوجات. و تنجح الأغنية وتقبل النساء على مصدر الغناء ولكن كلما جاءته فتاة يجد فيها عيبا ويرفضها حتى جاءت فتاة لم ير أحد مثلها من قبل ولا يعرف أحد اسمها وبمجرد أن رآها مقبلة من بعيد خفق قلبه لها. يحدث شجار بين أوتوتني و بين رجل آخر على تلك الفتاة تنتهي بقتل أوتوتني و انتصار الآخر.


يواصل إيشي سرد الحكاية لساعات يتخللها الغناء والإنشاد أحيانا كثيرة. مازالت تلك التسجيلات مثار اهتمام ودراسة الانثروبولوجيين حتى اليوم بحثا عن تفسير لها، تقول عالمة اللغويات ليان هينتون إن إيشي كان في الحقيقة يروي حكايته الشخصية بالذات أنه لم يحظ بفرصة للزواج طوال حياته. تفسير آخر يقول إنه كان يروي قصة الصراع بين الهنود الحمر والبيض على الفتاة الجميلة «الأرض».


في جلسة تسجيل أخرى يسأله كروبر عن قصة الخلق، كيف جاءت الأكوان إلى الوجود، وكيف خلِق الإنسان؟ وأين يذهب بعد الموت؟


هنا تصبح القضية جدية وفي صميم علم الانثروبولوجيا ولكن إجابة إيشي كانت صعبة على كروبر فالتسجيل بأكمله كان بلغة الياهي. فيستعين كروبر بعالم آخر هو الدكتور ادوارد سابير، عالم اللغويات المعروف والخبير بلغات الهنود الحمر، ولكن لم يكن سابير متواجدا و إنما كان مرتبطا بأعمال في كندا. تمكن د. سابير من مقابلة إيشي لاحقا وعمل معه لثلاثة أشهر حتى توقف العمل على إثر تدهور صحة إيشي.


مازالت التسجيلات موجودة بعد أن انقرضت لغة الياهي وانقرضت معها ثقافة مهمة كجزء من التراث الإنساني.


*****


كان هناك أمر غريب في شخصية هذا الهندي الأحمر. بالرغم من كل الظلم الذي نزل به والكوارث التي مرت فوق رأسه والقتلى من أسرته الذين قضوا أمام عينيه، إلا أنه طوال مدة بقائه في الجامعة والمتحف لم يقل مرة أن الرجل الأبيض مجرم سفاح.


لم يتذمر في أي مرة من الظلم الذي عاناه. لم يندب حظه ولم يوجه التهمة لأحد ولم يصرح بأي شيء من ذلك حتى لبعض الأمريكان الذين أصبحوا أصدقاء مقربين له.


في سنة 1914م، حاول كروبر إقناع إيشي بالسفر لرؤية المكان الذي عاش فيه. أراد كروبر أن يقترب أكثر من حياة الهنود الحمر في مكانهم الطبيعي وليس في المتحف. لكن إيشي رفض. احتاج الأمر وقتا ومحاولات متكررة حتى تمكن كروبر من إقناعه.


وبالفعل شدوا الرحال ومعهم واترمان مساعد كروبر الذي أخرج إيشي من مركز الشرطة، والطبيب بوب صديق إيشي الذي كان مغرما بالصيد باستخدام القوس والسهام، ومعهم مساعدان آخران.


وصلوا إلى المكان بعد سفر طويل، كان الجميع متعجبين من وعورة المنطقة ويتساءلون ما الذي دفع أولئك المستوطنين إلى أن يتكلفوا كل تلك المشقة لكي يأتوا إلى هذا المكان ليقتلوا أناسا آمنين ومسالمين.!


كان هناك كوخ خشبي صغير متهدم يشبه الكوخ الذي بناه إيشي خلف المتحف. تعرف عليه بأنه الكوخ الذي كان يسكن فيه مع أمه وأخته قبل أن يلقيا حتفهما.


نصبوا المخيم ليبيتوا ليلتهم بالقرب من تلك المنطقة. هجع الجميع ما عدا إيشي الذي انسحب بهدوء واختفى خلف إحدى الصخور. انتبه له كروبر فتبعه ووجده جالسا قرب ضفة النهر، اقترب منه وسأله ما المشكلة؟


قال له إيشي: أغرس أصابعك في التراب مثلي.


فعل كروبر ذلك مجاراة له. أضاف إيشي: هل تسمع الأرض تغني؟ احتار كروبر في هذا السؤال ولكنه أجاب: نعم.


التقت عيناهما، قال إيشي: هل تسمع صراخ الموتى؟


كروبر صامتا بلا إجابة.


هنا علا صوت إيشي وصاح بانفعال: هل تسمع بكاء المظلومين؟


انهار الهندي الأحمر الأخير بالبكاء والنحيب... بينما تسمر كروبر في مكانه.


*****


كانت رحلة مثمرة لكروبر تم توثيقها بالصور الفوتوغرافية وسجل الكثير من الملاحظات حول الأدوية الطبيعية التي يستخدمها أفراد قبيلة الياهي وطرق الصيد وصناعة الأدوات وغير ذلك. عادوا لبلدتهم حيث المتحف والجامعة ولكن إيشي قبل الرحلة لم يعد هو بعدها.


أصبح قليل الكلام قليل الابتسام يفضل الجلوس لوحده ويتحاشى كروبر بالذات. حتى المرضى في مستشفى الجامعة توقف عن الغناء لهم. كما أن صحته بدأت تزداد سوءا بسبب مرض السل.


لاحظ كروبر ذلك ولم يفهم السبب. لم يجد بدا من سؤال إيشي عن ذلك بشكل مباشر. سأله: هل فعلت لك ما يغضبك مني؟ قال إيشي: أنت تضعني في كتابك الصغير؟ أجابه نعم. قال: وضعت إيشي في كتابك، و لكن لم تضعه في قلبك!.


*****


حصل كروبر على بعثة علمية في نيويورك للإشراف على إنشاء المتحف الطبيعي فيها. كان اتخاذ قرار السفر صعبا ولكنها فرصة لا تعوض لتطوير مهنته. حزم أمره وقرر قبول البعثة العلمية وحان وقت توديـع أصدقائه. تقبل إيشي الأمر بشكل طبيعي. أوصى أصدقاءه أن يعتنوا به جيدا. بعد انتقاله إلى نيويورك بأسابيع وصلته برقية من زميله واترمان يقول فيها إن إيشي بدأ يسعل دما وساءت حالته الصحية وأن الدكتور بوب يعتني به وقد تم تنويمه في المستشفى الجامعي في الغرفة التي كان يغني ويرقص فيها من أجل المرضى.


في أيامه الأخيرة كان يطلب ماء ليشربه فيعطونه ماء ولكن كان يقول ماء الأنابيب ليس بماء، أريد ماء الينابيع.


في سنة 1916م، بعث واترمان برقية لكروبر يخبره فيها بوفاة إيشي. وهنا أبرق كروبر للدكتور بوب يقول: «لا تشريح لجثة إيشي. فليذهب العلم للجحيم».. وصلت البرقية متأخرة فقد كانت عملية التشريح قد بدأت بالفعل (لغرض البحث العلمي). ثم تم حرق جثته ووضعها في جرة و حفظت في المتحف. في سنة 2003 م طالبت بعض الجمعيات التي تعنى بحقوق الهنود الحمر باستعادة رفات إيشي ولا يعلم الآن مكانها..