إيشي .. آخر رجل من قبيلته ــ 1 ــ
عماد بوخمسين- عكاظ
(1)
في ذات صباح من سنة 1911م، سمع صاحب مزرعة للمواشي نباح الكلاب، حمل بندقيته ونادى إخوته وخرج ليستطلع الأمر. توجه نحو الكوخ المخصص لذبح الماشية، كانت الكلاب تنبح عند المدخل. دخل الإخوة الثلاثة بحذر، شعروا بحركة خلف أحد الذبائح المعلقة، بدأوا بالصراخ والتهديد «أخرج و إلا أطلقنا النار».
حاول اللص الفرار ولكنه وقع على الأرض فصوبوا بنادقهم نحوه. امتلأت ملامحه بالرعب، لم يجب على أسئلتهم وإنما بقي صامتا ينظر نحوهم بذهول وخوف. كان يرتدي رداء من قطعة واحدة مصنوعا من جلد الغزال و في يده سكين مصنوعة من حجر الصوان. وملامحه وجسمه الناحل تدل على أنه لم يأكل وجبة جيدة منذ شهـور.
ظنوه في البداية مكسيكيا ولكن بعد أن تأملوا وجهه جيدا عرفوا أنه هندي أحمر. تمتم أحدهم: ظننت أن الهنود الحمر انقرضوا في كاليفورنيا!.
اتصلوا بمأمور الشرطة حيث قبض على الهندي و وضعه في السجن، كان المأمور متعاطفا مع الرجل وكان يقصد من سجنه حمايته لا عقابه حتى ينظر في أمره. قدموا له الطعام والشراب وانتشر الخبر في الصحف المحلية واجتمع الناس عند باب السجن يريدون أن يلقوا نظرة على آخر هندي أحمر بري (Wild Indian) في ضواحي مدينتهم.
لم تفلح جميع محاولات التفاهم والتواصل مع هذا الهندي المحتجز، أرسلوا لأحد الهنود الحمر المتمدنين والذي تلقى تعليمه في مدارس الرجل الأبيض ولكنه فشل كذلك في التواصل معه فهما من قبيلتين مختلفتين والكلمات المشتركة بينهما قليلة.
انتشر الخبر في الصحف الأمريكية تحت عنوان: القبض على آخر هندي بري في كاليفورنيا. كان حديث الناس في مدينة لاسن بيك التي تم القبض عليه فيها. بعد أيام جاء مبعوث من جامعة كاليفورنيا إلى قسم الشرطة ومعه خطاب يطالب فيه باستلام إيشي لغرض الدراسة. كان عالِم الانثروبولوجيا الشاب والمتحمس الدكتور ألفرد كروبر قد قرأ عن الحادثة في الصحف، وبما أنه يدير المتحف الانثروبولوجي الذي أنشئ حديثا في جامعة كاليفورنيا فقد وجد من المهم أن يستضيف هذا الهندي الكاليفورني الأخير فهو سيمثل سبقا علميا مهما. هكذا أرسل مساعده الباحث واترمان لإحضاره.
سمح لواترمان بمقابلة إيشي في الزنزانة وكان يحمل معه كتيبا يتضمن كلمات مختلفة من عدة لغات و إلى جوار كل كلمة اسم القبيلة التي تتحدث بها بالإضافة إلى معناها الإنجليزي.
بعد ترديد عدة كلمات على مسامع إيشي بدون أي ردة فعل، وصل الباحث الجامعي إلى كلمة سيويني Si wi ni (وتعني خشب الصنوبر ) هنا تهللت ملامح الهندي وأخذ يردد نفس الكلمة. لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الهندي منذ سنوات. هكذا تم التعرف على قبيلته، إنها قبيلة «ياهي» التي ساد الاعتقاد بأنها انقرضت منذ عقود من الزمن.
تم توفير ملابس جديدة لإيشي تشبه ملابس الرجل الأبيض، ما عدا الحذاء وربطة العنق فهو لم يتمكن من ارتدائهما ربما لأنهما يشبهان القيود. وقف الإثنان على محطة القطار وخلفهما اجتمع الكثيرون من أهل البلدة ومعهم فرقة موسيقية لتوديع إيشي الرجل الهندي البري كما اشتهر عنه.
وفي لحظة ركوبه القطار توجهت سيدة تحمل سلة طعام وفواكه كبيرة إلى إيشي وأعطته إياها وهي تقول: هذه هدية من نساء مدينة لاسن بيك، نتمنى لك حياة سعيدة تعوضك عن آلامك وعائلتك. ونتمنى أن تعرف أن لك أصدقاء من البيض، وليس كلهم أعداءك.
لم يفهم إيشي شيئا من كلماتها ولكن أخذ السلة بابتسامة. وانطلق القطار إلى جامعة كاليفورنيا ليبدأ حياة جديدة كليا.
(2)
كان الدكتور ألفرد كروبر في الانتظار في محطة القطار. كروبر هو من الجيل الأول من الانثروبولوجيين الذين تخرجوا من جامعة كاليفورنيا بعد افتتاح قسم الاثروبولوجيا فيها.
كان يجيد عدة لغات أوروبية بالإضافة لعدد من لغات الهنود الحمر من بينها لغة قبيلة الياهي التي ينتمي إليها إيشي. وكان يحمل على عاتقه بالإضافة إلى بعض رفاقه هموم توثيق تراث الهنود الحمر وأساطيرهم و معتقداتهم بعد أن أيقن أنهم في الطريق إلى الفناء تماما.
تكمن أهمية الهنود الحمر بالنسبة للانثروبولوجيين في أنهم يعتبرون الرابط بين الإنسان المعاصر و إنسان العصر الحجري، حيث إن معيشتهم واعتمادهم التام على الطبيعة يشبه إلى حد كبير حياة الإنسان من العصر الحجري.
استقبل الدكتور ألفرد كروبر ضيفه الجديد بترحاب و إكرام وتبادل معه بعض العبارات بلغة الياهي. وأخذه إلى متحف الجامعة حيث سيقيم إيشي لبقية حياته في غرفة ملاصقة.
توقف إيشي طويلا أمام ثور البايسون المحنط في المتحف، حياة الهنود الحمر كلها كانت مرتبطة بهذا الحيوان الوادع رغم ضخامته. وأثناء التجول في المتحف وجد شيئا مثيرا، جرة فخارية. التفت إيشي إلى كروبر وقال: أعرف هذه الجرة، صنعتها جدتي. إنها جرة من تراث قبيلتي، قبيلة الياهي.
أكد كروبر ما قاله إيشي ولم يفوت الفرصة لكي يسأل بفضوله المعرفي: ما معنى شكلها و إلى ماذا يرمز؟
أجاب إيشي: قاعدة الجرة الضيقة تمثل ضيق نظرة الإنسان في طفولته و وسطها الواسع يمثل غروره عندما يكون له رأي، وفوهتها تمثل تحليق الروح بعد أن يكبر و ينضج.
(3)
حان الوقت ليمنح الهندي الجديد إسما فإلى الآن لا أحد يعرف إسمه. يقول كروبر إن من عادات الهنود الحمر أن لا يصرحوا بأسمائهم للغرباء، ربما لذلك علاقة بالسحر أو ما شابه، وهكذا قرر كروبر أن يطلق على الهندي الضيف اسم «إيشي» و يعني رجل بلغة الياهي، والتصق به هذا الاسم حتى وفاته.
كان إيشي يتوقف مذهولا أمام أشياء كثيرة في بيت الرجل الأبيض. كان يمسك بمقبض الباب و يفتحه و يغلقه عدة مرات، وكلما رأى مقبض باب يفتحه ويغلقه. وكذلك يفعل مع الستائر على النوافذ، كان يراها شيئا إعجازيا. وأثار استغرابه جدا عدم وجود فتحة في أسقف الغرف، وموضع الغرابة في ذلك أن إيشي يقول إذا أشعلت نار الموقد في وسط الغرفة فأين سيذهب الدخان؟! وفي كل ذلك يظهر القياس بين بيت الرجل الأبيض وخيمة الهندي التقليدية Tipi.
أما العصفور العملاق الطائر فكان شيئا خارقا. بقي يحدق في تلك الطائرة كثيرا والتفت إلى كروبر الذي كان يسير إلى جواره في الشارع و سأله: سالدو Saldo ؟ وهي الكلمة التي يطلقها الياهي على الرجل الأبيض. أي هل هذا من صنع الرجل الأبيض كذلك؟ قال كروبر نعم. وعلق إيشي: إن هذا الزمن هو زمن الرجل الأبيض.
بعد حوالى الشهر من وصول إيشي إلى جامعة كاليفورنيا واستقراره فيها برعاية د. ألفرد كروبر، جاء مبعوث حكومي من إدارة شؤون الهنود الحمر في واشنطن يطالب بإرسال إيشي إلى إحدى المحميات الهندية (أنشأتها الحكومة الأمريكية كحل لأزمة الهنود الحمر ) لكي لا يتعرض للاستغلال في الجامعة. رفض كروبر ذلك رفضا قاطعا، وقال هل تريد أن ترسله إلى محميات الموت البطيء ؟، ألا يكفي الملايين الذين قتلتموهم من الهنود الحمر، حتى تحاول أن ترسل هذا المسكين لتدمر حياته و يلقى حتفه؟.
أجاب الممثل الحكومي: بأي صفة تجبره على البقاء عندك؟ هذا استعباد ممنوع حسب الدستور الأمريكي، لا يمكنك احتجاز شخص لديك ضد رغبته؟
أجاب كروبر بسرعة بديهة: إنني الآن قد وظفت إيشي في المتحف الانثروبولوجي التابع لجامعة كاليفورنيا بوظيفة مساعد باحث وبراتب أسبوعي.
والتفت كروبر إلى إيشي الذي كان حاضرا وسأله بلسان الياهي: هذا الرجل يريد إرسالك إلى محمية ترعاها حكومة الولايات المتحدة، وأما أنا فأريدك أن تعمل معي في الحفاظ على تراث شعبك في هذا المتحف. أيهما تختار؟
أجاب إيشي بأنه يريد أن يعيش ويموت في هذا المكان. ترجم كروبر هذه الإجابة مما أنهى الجدال. انصرف الرجل وهو ينظر إلى كروبر نظرات شك في صحة ترجمته!.
يصف كروبر إيشي بأنه كان سمحا غير عدائي بتاتا، وكون صداقات مع الأطفال في الحي المجاور للمتحف. وبسبب وجوده كثر زوار المتحف و اشتهر كروبر ومتحفه في أنحاء أمريكا.
بدأ إيشي يتكلم الانجليزية بشكل بسيط، وكان يتجول في الجامعة و يذهب إلى المستشفى الجامعي كثيرا وهناك كون صداقة مع الدكتور الجراح بوب الذي كان طبيب إيشي الشخصي كذلك.
دخل ذات مرة إلى غرفة الموتى وغرفة المشرحة حيث كان بعض الأطباء يقومون بتشريح الجثث بغرض البحث العلمي والتدريب. أرعبه ذلك كثيرا وأثار فزعه وأبدى استغرابه كيف يفعل الرجل الأبيض ذلك بأبناء قومه الموتى، وقال إنه لا يريد أن يحدث له مثل ذلك بعد أن يموت فهذا سيجعله يتوه ولا يصل إلى أرض الأسلاف. كان يريد بعد موته أن تحرق جثته ويغني له أصدقاؤه لكي تصل روحه بسلام إلى أرض الأسلاف الأبدية.
كثيرا ما يذهب إيشي إلى غرف المرضى المنومين في المستشفى ويبدي تعاطفه معهم ويرقص ويغني لهم رقصة الشفاء الهندية حسب تقاليد قبيلته..
---------------------------
إيشي .. آخر رجل من قبيلته
عماد بوخمسين - عكاظ ٢
في جلسة هادئة، سأل الدكتور كروبر إيشي: ماذا جرى لأهلك؟ حدثنا عن طفولتك؟
في منتصف القرن التاسع عشر، قبل ولادة إيشي، كان تعداد قبيلة ياهي حوالى 400 فردا. ولكنها كانت فترة منحوسة بالنسبة للهنود الحمر في كامل القارة الأمريكية، وبالذات في كاليفورنيا.
جاءت حمى البحث عن الذهب. زحف الآلاف من المستوطنين البيض إلى مناطق نائية بحثا عن الذهب، ويحملون في رؤوسهم معتقدا راسخا بأن الإله قد منحهم هذه الأرض وأن القدر يقضي بأن تكون لهم بكل خيراتها، وكل ما سيمنعهم من ذلك فلهم الحق في القضاء عليه. أما هذا العِرق الأحمر فمقدر له أن يبيد.
لم تكن هذه الايديولوجيا فقط هي المحرك لعمليات القتل والتطهير العرقي، بل إنهم كانوا يعتبرون هذه الشعوب البدائية في درجة أدنى من البشر كأنهم نوع من القردة الذكية أو ما شابه.
كان المستوطنون يصطادون الغزلان البرية ببنادقهم بشكل جنوني. عندما تموت الغزلان أو تهرب من منطقة يتأثر التوازن البيئي فتختفي حيوانات ونباتات أخرى معهم. أكبر المتضررين هم الهنود الحمر، بالذات في موسم الشتاء. وكلما انتقل الهنود لمكان بعيد، لحقهم المستوطنون بحثا عن الذهب أو بغرض صيد الطرائد.
ولو تجرأ الهنود الجوعى على أخذ شيء من أبقار المستوطنين ليسدوا حاجتهم ويطعموا أطفالهم، يكون الانتقام بقتل العشرات من الهنود الحمر دفعة واحدة.
في كاليفورنيا كان اصطياد الهنود قانونيا بل مربحا كذلك. كانت حكومة مقاطعة كاليفورنيا تدفع 5 دولارات مقابل كل رأس هندي مقطوع. وتدفع 50 سنتا لكل فروة رأس مجتزة. في سنة 1854م فقط، دفعت الحكومة الفيدرالية إلى مقاطعة كاليفورنيا تعويضات بقيمة مليون دولار مقابل ما قدمه صيادو الهنود من رؤوس أو فروات رؤوس مقطوعة.
كان هناك أفراد من البيض رفعوا أصواتهم بالاعتراض على هذا العنف الهمجي ولكن ضاعت أصواتهم بلا طائل. بل إن صيادي البشر أولئك كانوا يعاملون معاملة الأبطال والفاتحين في بلدانهم.
*****
تحدث إيشي بأسى إجابة على سؤال الدكتور كروبر. روى كيف رأى في طفولته والده يقتل أمامه بطلقات نارية في ظهره عندما هجم مجموعة من المستوطنين البيض عليهم في قريتهم الوادعة. ظهروا من خلف التل فجأة يحملون بنادق ويصرخون ويطلقون النار على أي شيء يتحرك.
انتقلت القبيلة على إثر هذا الهجوم إلى مكان آخر وتوغلت في الغابة أكثر. ثم بعدها بسنوات حدث الهجوم التالي. العشرات سقطوا كذلك.
مرة أخرى انتقل الناجون إلى مكان أبعد وأكثر وعورة. لحقهم المستوطنون بعدها بسنوات ليقتلوا ما تبقى منهم. بقي على إثر هذا الهجوم الأخير ثلاثة أشخاص، إيشي وأمه وأخته.
طابق الدكتور كروبر الوقائع التي ذكرها إيشي مع الوقائع التي يعرفها البيض من سكان تلك المنطقة، والتي تعرفها الحكومة الأمريكية جيدا كذلك. فوجدها صحيحة وعرف سنة وقوعها.
واصل إيشي حديثه فذكر أنه عاش عدة سنوات مع أمه العجوز وأخته بين الجبال في منطقة يصعب أن يصل إليها أحد. كان الثلاثة هم آخر من تبقى من قبيلة ياهي. يشربون من النهر ويأكلون مما تجود به الأرض، و يسكنون في كوخ خشبي صغير يشبه الكوخ الذي صنعه إيشي بجوار المتحف الإنثروبولوجي.
لم تتركهم عوادي الزمان طويلا. جاء مجموعة من البيض وأطلقوا النار عليهم. حاولوا الهـرب، سقطت الأخت قتيلة برصاصة في الظهـر. أمسك إيشي بأمه العجوز وبدأ يجري، رصاصة أخرى دخلت ظهرها. واصل الجري حتى تمكن من الفرار. ماتت أمه بين يديه.
عاش إيشي بعدها ثلاث سنوات لوحده في البرية. لم ينطق بكلمة مع مخلوق حي. دفعه الجوع في إحدى الليالي من سنة 1911م لأن يدخل إلى مخزن لحوم في إحدى مزارع الرجل الأبيض... فقبض عليه.
صمت إيشي. كانت لحظات مؤثرة. الآن الضحية يتكلم وليس المجرم. الآن الأحداث يرويها القتلى وليس الجرائد الرسمية.
استطاع الدكتور كروبر من خلال الأحداث التي أوردها إيشي ومن خلال الفحص الطبي أن يقدر عمره. كان في لحظة القبض عليه يبلغ من العمر 50 سنة.
*****
جهـز د. كروبر جهاز الفونوغراف وأجرى تجربة تسجيل لإيشي ليعرف وظيفة الجهاز والغرض منه. ثم بدأت جلسات تسجيل صوتي طويلة على اسطوانات شمعية، كان مرض السل قد بدأ يؤثر على صحة إيشي مما جعل جلسات التسجيل متقطعة على مدى عدة أيام.
«حدثنا عن بعض القصص الشعبية التي يتداولها الهنود الحمر في قبيلة ياهي» بدأ كروبر بالحديث.
فيسرد إيشي قصة حب لطيفة اسمها قصة حب بطة الخشب Wood Duck Love Tale عن رجل اسمه أوتوتني U-Tut-Ne يبحث عن زوجة فيغني أغنية جميلة هي أغنية وينوتي Wino-Tay Song لاجتذاب الزوجات. و تنجح الأغنية وتقبل النساء على مصدر الغناء ولكن كلما جاءته فتاة يجد فيها عيبا ويرفضها حتى جاءت فتاة لم ير أحد مثلها من قبل ولا يعرف أحد اسمها وبمجرد أن رآها مقبلة من بعيد خفق قلبه لها. يحدث شجار بين أوتوتني و بين رجل آخر على تلك الفتاة تنتهي بقتل أوتوتني و انتصار الآخر.
يواصل إيشي سرد الحكاية لساعات يتخللها الغناء والإنشاد أحيانا كثيرة. مازالت تلك التسجيلات مثار اهتمام ودراسة الانثروبولوجيين حتى اليوم بحثا عن تفسير لها، تقول عالمة اللغويات ليان هينتون إن إيشي كان في الحقيقة يروي حكايته الشخصية بالذات أنه لم يحظ بفرصة للزواج طوال حياته. تفسير آخر يقول إنه كان يروي قصة الصراع بين الهنود الحمر والبيض على الفتاة الجميلة «الأرض».
في جلسة تسجيل أخرى يسأله كروبر عن قصة الخلق، كيف جاءت الأكوان إلى الوجود، وكيف خلِق الإنسان؟ وأين يذهب بعد الموت؟
هنا تصبح القضية جدية وفي صميم علم الانثروبولوجيا ولكن إجابة إيشي كانت صعبة على كروبر فالتسجيل بأكمله كان بلغة الياهي. فيستعين كروبر بعالم آخر هو الدكتور ادوارد سابير، عالم اللغويات المعروف والخبير بلغات الهنود الحمر، ولكن لم يكن سابير متواجدا و إنما كان مرتبطا بأعمال في كندا. تمكن د. سابير من مقابلة إيشي لاحقا وعمل معه لثلاثة أشهر حتى توقف العمل على إثر تدهور صحة إيشي.
مازالت التسجيلات موجودة بعد أن انقرضت لغة الياهي وانقرضت معها ثقافة مهمة كجزء من التراث الإنساني.
*****
كان هناك أمر غريب في شخصية هذا الهندي الأحمر. بالرغم من كل الظلم الذي نزل به والكوارث التي مرت فوق رأسه والقتلى من أسرته الذين قضوا أمام عينيه، إلا أنه طوال مدة بقائه في الجامعة والمتحف لم يقل مرة أن الرجل الأبيض مجرم سفاح.
لم يتذمر في أي مرة من الظلم الذي عاناه. لم يندب حظه ولم يوجه التهمة لأحد ولم يصرح بأي شيء من ذلك حتى لبعض الأمريكان الذين أصبحوا أصدقاء مقربين له.
في سنة 1914م، حاول كروبر إقناع إيشي بالسفر لرؤية المكان الذي عاش فيه. أراد كروبر أن يقترب أكثر من حياة الهنود الحمر في مكانهم الطبيعي وليس في المتحف. لكن إيشي رفض. احتاج الأمر وقتا ومحاولات متكررة حتى تمكن كروبر من إقناعه.
وبالفعل شدوا الرحال ومعهم واترمان مساعد كروبر الذي أخرج إيشي من مركز الشرطة، والطبيب بوب صديق إيشي الذي كان مغرما بالصيد باستخدام القوس والسهام، ومعهم مساعدان آخران.
وصلوا إلى المكان بعد سفر طويل، كان الجميع متعجبين من وعورة المنطقة ويتساءلون ما الذي دفع أولئك المستوطنين إلى أن يتكلفوا كل تلك المشقة لكي يأتوا إلى هذا المكان ليقتلوا أناسا آمنين ومسالمين.!
كان هناك كوخ خشبي صغير متهدم يشبه الكوخ الذي بناه إيشي خلف المتحف. تعرف عليه بأنه الكوخ الذي كان يسكن فيه مع أمه وأخته قبل أن يلقيا حتفهما.
نصبوا المخيم ليبيتوا ليلتهم بالقرب من تلك المنطقة. هجع الجميع ما عدا إيشي الذي انسحب بهدوء واختفى خلف إحدى الصخور. انتبه له كروبر فتبعه ووجده جالسا قرب ضفة النهر، اقترب منه وسأله ما المشكلة؟
قال له إيشي: أغرس أصابعك في التراب مثلي.
فعل كروبر ذلك مجاراة له. أضاف إيشي: هل تسمع الأرض تغني؟ احتار كروبر في هذا السؤال ولكنه أجاب: نعم.
التقت عيناهما، قال إيشي: هل تسمع صراخ الموتى؟
كروبر صامتا بلا إجابة.
هنا علا صوت إيشي وصاح بانفعال: هل تسمع بكاء المظلومين؟
انهار الهندي الأحمر الأخير بالبكاء والنحيب... بينما تسمر كروبر في مكانه.
*****
كانت رحلة مثمرة لكروبر تم توثيقها بالصور الفوتوغرافية وسجل الكثير من الملاحظات حول الأدوية الطبيعية التي يستخدمها أفراد قبيلة الياهي وطرق الصيد وصناعة الأدوات وغير ذلك. عادوا لبلدتهم حيث المتحف والجامعة ولكن إيشي قبل الرحلة لم يعد هو بعدها.
أصبح قليل الكلام قليل الابتسام يفضل الجلوس لوحده ويتحاشى كروبر بالذات. حتى المرضى في مستشفى الجامعة توقف عن الغناء لهم. كما أن صحته بدأت تزداد سوءا بسبب مرض السل.
لاحظ كروبر ذلك ولم يفهم السبب. لم يجد بدا من سؤال إيشي عن ذلك بشكل مباشر. سأله: هل فعلت لك ما يغضبك مني؟ قال إيشي: أنت تضعني في كتابك الصغير؟ أجابه نعم. قال: وضعت إيشي في كتابك، و لكن لم تضعه في قلبك!.
*****
حصل كروبر على بعثة علمية في نيويورك للإشراف على إنشاء المتحف الطبيعي فيها. كان اتخاذ قرار السفر صعبا ولكنها فرصة لا تعوض لتطوير مهنته. حزم أمره وقرر قبول البعثة العلمية وحان وقت توديـع أصدقائه. تقبل إيشي الأمر بشكل طبيعي. أوصى أصدقاءه أن يعتنوا به جيدا. بعد انتقاله إلى نيويورك بأسابيع وصلته برقية من زميله واترمان يقول فيها إن إيشي بدأ يسعل دما وساءت حالته الصحية وأن الدكتور بوب يعتني به وقد تم تنويمه في المستشفى الجامعي في الغرفة التي كان يغني ويرقص فيها من أجل المرضى.
في أيامه الأخيرة كان يطلب ماء ليشربه فيعطونه ماء ولكن كان يقول ماء الأنابيب ليس بماء، أريد ماء الينابيع.
في سنة 1916م، بعث واترمان برقية لكروبر يخبره فيها بوفاة إيشي. وهنا أبرق كروبر للدكتور بوب يقول: «لا تشريح لجثة إيشي. فليذهب العلم للجحيم».. وصلت البرقية متأخرة فقد كانت عملية التشريح قد بدأت بالفعل (لغرض البحث العلمي). ثم تم حرق جثته ووضعها في جرة و حفظت في المتحف. في سنة 2003 م طالبت بعض الجمعيات التي تعنى بحقوق الهنود الحمر باستعادة رفات إيشي ولا يعلم الآن مكانها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق