الاثنين، 17 أغسطس 2015

تويتر.. ماله وما عليه


المشاركون:

1) تويتر والانتقال للعيش في العالم الافتراضي.. مهدي الرمضان
2) لماذا هرب الناس الى تويتر.. رائدة أحمد
3) تويتر والزمان والمكان مابعد الحداثيين.. امين الغافلي
4) الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً.. كاظم الخليفة  



تويتر والانتقال للعيش في العالم الافتراضي. 

مهدي الرمضان. 

منذ حوالي خمسة عشر عاما بدأت غالبية شعوب العالم المتحضر في رحلة جماعية ضخمة للإنتقال من العيش و ممارسة الحياة الإجتماعية الطبيعية بكل جوانبها ومناشطها وفعالياتها في عالم الواقع الملموس كما كان يمارسه الآباء والأجداد على مدى الآلاف من السنين ليتحولوا للعيش في عالم إفتراضي محصور في شبكات إلكترونية للإتصال والتواصل معقدة ومتداخلة تلف بخطوطها وخيوطها مساحة الكرة الارضية. 
إنجذاب الافراد لهذه التقنيات منحهم مزيد من الحرية في الاوقات والقنوات التي يتواصلون عبرها ومهد لهم سهولة تقاطع وتبادل التعارف وسمح لهم بجمع اعداد كبيرة من الاصدقاء من كل أطراف المعمورة قد تصل لعشرات الآلاف بل ربما للملايين من الأصدقاء و المتابعين. 
ومن المعلوم ان للإنسان قدرة إدارة وعقد صداقات في عالمه الملموس مع أفراد عادة لا يتجاوز تعدادهم اكثر من مائة وخمسين شخص. ولكن هذه التقنيات في المقابل حملتهم مسؤليات ادبية بان يمنحوا من اوقاتهم فترات مهمة للإبقاء على دوام التواصل بالكتابة والمحادثة اليومية وبالإطلاع والقراءة المتواصلة لما يصلهم من رسائل قد تتجاوز المئات يوميا. 

سلبت هذه التقنيات متعة التلامس والحديث الحميمي وجه لوجه واقتطعت حصة كبيرة من وقت وجهد المرء التي كانت من نصيب عائلته والاقربين من اصدقاءه ومعارفه في عالم الواقع لتوزعها على اعداد كبيرة من الأشخاص يقطنون عالم إفتراضي غير ملموس لم  وربما لن يراهم أبدا في حياته. 
لا شك ان للعالم الإفتراضي فوائد كبيرة منها فتح آفاق كبيرة للعلم ورفع وتيرة الكسب المعرفي وتوسيع حجم المستوى الثقافي والعلمي ومواكبة الاحداث لحظيا وإبقاء المرء مطلع بشكل وثيق على ما يدور في محيطه الإجتماعي وفي العالم.  
وفي المقابل ولعل الاخطر في سلبيات التحول للعيش في العالم الافتراضي هو الصمت والسكوت عن التحادث والإبتعاد عن التفرغ للعائلة. 
تويتر العظيم، يعد أحد أهم قنوات العالم الإفتراضي وأكثرها صخبا لما إستحوذ عليه من بلايين من المشتركين كل منهم يغرد من على غصن شجرة في غابة عالمية مكتظة. 
لتويتر فوائد كثيرة ولعل أهمها أنه منصة لحرية الفكر وتبادل الآراء ونشر الثقافة وتوسيع مجالات المعرفة بطريقة غير مسبوقة وبسهولة ميسرة. فيمنح كل مشترك مساحات حرية كبيرة بدون حواجز ويفتح له أبواب بدون عوائق ليعبّر المرء عن مكنونات نفسة وينشر عصارات أفكاره ويتناغم مع غيره ممن يشاركونه رؤاه وكل ذلك بطريقة لم يكن يحلم أن يطالها سابقا. 

ولكن في المقابل ينطوي تويتر على فخاخ ومصائد قد لا يعيها إبتداء المغرد خاصة في بيئاتنا الثقافية المحافظة والغالب عليها ولا يزال للأسف الإنغلاق الإجتماعي والسياسي والأهم الإنغلاق الديني. 
ففي المجال الثقافي، يقع المغرد في فخ محاولة إرضاء متابعيه بإلتزام التغريد المستمر الغير منقطع وفي ذلك صيغة من الإلتزام الضاغط قد يفقد على أثرها حريته وسيطرته على وقته ويشعر بأنه مرتهن لا يمكنه التملص والتخلص من توقعات وتطلعات متابعيه لمزيد من العطاء الذي لا يجب أن ينضب. 
حتى في مجالات الفكر، قد يقع في فخ دكتاتورية المتابعين من لديه متابعين كثر بأن عليه أن يخضع وينصاع لتوجهاتهم ولإرضائهم على حساب مرونته الفكرية ويخنع لسلطانهم وتوجيهاتهم ويفقد قدرته على تغيير مواقفه أو الإعلان عما قد يستفز غالبيتهم. 
ولعل الاسوء في تجارب تويتر وبسبب إنغلاق فكري يعاني منه المجتمع ان يدخل المغرد المتحرر فكريا في صدام مباشر مع السلطات الدينية والسياسية قد تؤدي به ليقبع خلف قضبان السجن. 

كما قد يدخل في جدال ديني أو سياسي عقيم يضطره أن يتلقى شتائم وبذاءات بعض متابعيه أو غيرهم. 
ليس كل المغردين في تويتر بلابل يشدون بالانغام الشجية أو مفكرين عمالقة يخاطبون الوعي والعقل بل فيه الغربان والبوم النواعق في الخرائب وفيه ما هب ودب من السفاهات والتفاهات المغيبة للوعي والرشد.
يضم تويتر بين جنباته من يحمل أسماء مستعارة ليروج الكراهية ويمجد الإرهاب ويفاخر بالقبح ويعلي شأن البشاعة. 
وقد يقع المغرد في مصيدة طلب جمع المتابعين بأي ثمن وفي سبيل هذا الهدف يضطر أن ينحدر لمستوى فكري أقل مما يرتضيه لنفسه من خلال تقديم أعداد كبيرة من تغريدات لا قيمة فكرية أو معرفيه لها.
تويتر فوق ذلك هو للأسف مرتع وساحة لتمجيد التافهين من المشاهير الفاقدين لكل قيم الفكر والثقافة. 
ولكن، لا يمكن إرجاع التاريخ او العيش خارجه بالتخلي تماما عن تقنيات العصر وللمرء الحصيف ان  يقتنص حسنات العالمين الواقعي والإفتراضي وقطف ثمرات كلاهما بحسن إدارته الوقت والسيطرة على الذات كي لا يستحوذ عليه العالم الإفتراضي بسحره و بفنطازيته ويحوله من كائن حر يمتلك زمام أموره لكائن مرتهن ومستعبد. 
الحرية أثمن من أن يتنازل عنها المرء لأي سبب حتى وإن كان لتويتر العظيم. 


-----------

لماذا هرب الناس الى تويتر؟

رائدة أحمد 

تويتر موقع تواصل كأي موقع تواصل آخر الفرق انه يرصد الحدث لحظة بلحظة وبأسرع من تحضير علبة إندومي فقبل أن يصحو وزير الإسكان الجديد من نومه ذات يوم تم تحليل وتدقيق كل تغريدة في حسابه وقبل أن يقوم احدهم بمسح تغريدته يتم تصوريها وإقامة دعوى عليه بغرض الإساءة .
🔸هل تويتر فعلا منصة حقيقية للتعبير عن الرأي؟ ام انه ساحة واسعة للعب الجهات اﻻستخبارية في صناعة وتوجيه الرأي العام؟
تويتر منصة للتعبير زائد ان الحكومات استخدمته أيضاً لتوجيه الرأي وإشغال الشعب عن ماهو مهم بضربة هنا وتفجير هناك وتصفية رجل أمن هنا 
لكن لازال الشعب السعودي خاصة يحتاج مائة عام على الاقل ليتقبل ثقافة الرأي الآخر ومائة عام أخرى ليتعلم آداب الحوار ومائة ثالثة لكي يتعلم احترام الآخرين ..
تويتر أصبح في متناول الصغار والكبار والجهلة والمرضى النفسيين والمخابرات فيجب أن نكون حذرين في اختيار الكلمات وطريقة الرد والتعامل والتجاهل ان لزم الأمر .
🔸هل تؤيد إغلاق  تويتر بعدما تسبب من اختراقات وتجنيد الشبان في الجماعات اﻻرهابية؟
لا أؤيد ذلك أبداً اما الشباب فيجب توعيتهم بطرق اخرى 

🔸كيف تصف تجربتك في تويتر؟؟
دخلت تويتر من مايقارب خمسة أعوام كفضول فقط ولم أكن أنوي المشاركة ولكن شيئاً فشيء وجدت نفسي أغوص في بحره ،ووجدت انه منبر جيد جدا لتوصيل أي رسالة وهذا ماحدث فعلا فالضغظ الإعلامي  في موقع تويتر اطاح بعدد لابأس منه من الأشخاص زائد انه سلط الضوء على الكثير من المسكوت عنه..بعد احداث القديح وبعد كتابة عدة تغريدات تتسم بالهجوم كما أسماه الطرف الاخر والحدة تم إخضاعي لمكالمة تحقيق مخفف كما أُحب أن أُسميها لكني  لازلت اعتقد ان هناك طرق كثيرة نستطيع قول الحق فيها بأساليب مواربة ..
أيضاً لاحظت الكثير ممن يرسل على الخاص بطلب التحدث بموضوع معين وطرحه على الساحة..
حسابي متنوع وحسب الجو العام فأنا اكتب عن الحب تارة وعن الإنسانية تارة اخرى وفي المناسبات الخاصة أجد نفسي تلقائياً مع الحدث ..تم طلب ان أغلق الحساب وان ابدأ في الكتابة مع صحيفة ولكنني رفضت ...


أخيرا اعترف انا الموقعة أدناه انني مصابة بالإدمان على موقع تويتر وحاولت الشفاء منه ولكنني لم استطع🎶

----------

تويتر والزمان والمكان مابعد الحداثيين.

أمين الغافلي

الزمن مابعد الحداثي مفارق للحداثي ،فالزمن الحداثي دفع الرأسمالية على التركيز على انتاج السلع  وتسويقها ، وكانت الجودة في الزمن الحداثي أحد معايير التسويق الناجح.
أما الزمن مابعد الحداثي  فإنه لا يقتصر على رمي السلع المستهلكة فاقدة الجودة ،بل دال على رمي القيم وأنماط العيش والعلاقات الاجتماعية المستقرة في النفاية.

في الزمن مابعد الحداثي تتلاشى القدرة على ضبط الزمن وهذا يعني نفي المكان المتشظي وتحويله إلى مكان متوحد(العولمة) جغرافيا وثقافيا وجماليا واقتصاديا.
يصحب ذلك نفيا للهويات الاجتماعية المتماسكة  وحلول الهويات الفردية العابرة التي تستجيب لاغراءات الذائقة الجمالية مابعد الحداثية ،فهي مستعدة لرمي الكتب والصحف الجادة والاغذية المحلية النافعة،والملابس الرامزة للهوية الاجتماعية/الوطنية من أجل الامساك بالزمن المندفع نحو أمكنة تملك القدرة على تغيير واقعها الجغرافي كله واعادة لملمته ليتناسب مع متطلبات المرحلة الرأسمالية الراهنة.
تويتر ينتمي للزمن مابعد الحداثي ،الذي مجد ويمجد رمي الكتب المنهجية النقدية الجادة والقراءة الجمالية المصاحبة لها.

في تويتر،كل يوم يتعامل المغرد مع ذائقة أخرى خلقتها فضاءات اجتماعية جديدة وأزمنة مغايرة ،تعدد الذائقات الأخرى تصيب المغرد بحالة غضب دائما ،يصاحبه أحيانا شتم وعنف وتهديد.
تويتر ما هو الا استجابة لمفهوم ضغط الزمان والمكان مابعد الحداثيين كما صاغهما المفكر اليساري ديفيد هارفي.ومن صفاتهما تمجيد السريع و الزائل والهابط استجابة لشروط البورجوازية الرأسمالية الساعية إلى استملاك إرادة البشر كي يسهل توجيهها نحو الغايات الاقتصادية والثقافية المنشودة.
أظن أن جاك دورسي مؤسس تويتر استوعب بذكاء مفهومي الزمان والمكان مابعد الحداثيين،فشرع في تأسيس تويتر بمواصفات تتماشى مع مفهومي الزمان والمكان مابعد الحداثيين.
فهو أدرك أن الزمن الحداثي امتص قدرة الانسان على القراءة الجادة الطويلة والحوارات الاجتماعية الشفهية ،وأدرك كذلك حالة الاغتراب الاجتماعي والديني والسياسي والديني التي أحدثها الزمن الحداثي ،فعمد على تأطير التغريدة في 140 حرفا كي يكون مغرد مابعد الحداثي قادرا على توظيف قدرته البصرية والإدراكية على التفاعل معها.

---------------


[١] "الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"
كاظم الخليفة 

بخلاف ما يتطلبه برنامج التواصل الاجتماعي "تويتر" من تقاليد صارمة في الإيجاز، سأحاول في هذه المقالة ان أُسهب في الحديث عنه؛ تارةً باعتباره ينضوي كظاهرة تحت علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، ومن جهة أخرى ينتمي إلى النقد الأدبي الرقمي لأنه "نص". 

فمن خلال علم الإجتماع أضحى هذا اللون من وسائل التواصل الاجتماعية، كيان واقعي يشكل بأدواته وتقاليده وجماهيره مجتمع افتراضي يجب دراسته من أجل الكشف عن تأثيره على العالم الواقعي، وكذلك للتنبؤ بمستقبله كمحرض لبرامج تواصلية أخرى تنطلق من أرضيته. 
فتويتر يأتي في زمن الإحلال التقني بعد برنامج "الفيس بوك"، يتشابهان في أن لكل منهما مجتمعه، ويفترقان في مفهوم الرسالة. فإذا جاز لنا القول أن الفيس بوك ينقل المعرفة، فتويتر يكون ناقلاً للمعلومة. لذلك ينتشر استخدامه في وسط تغيب عنه المعلومة ولا تتاح في القنوات الطبيعية كالتلفزيون والصحف، فبالتالي يصبح بمساحته المحدودة متوافقاً مع الغرض الذي استخدم من أجله (١٤٠ حرف). فالمعلومة التي تُنقل بواسطة تويتر، هي ما يعرف بـ "الصنعة الاجتماعية" حيث لها علاقة بالواقع الاجتماعي، ووظيفة الكاتب من هذا المنظور هي تمثيل العالم والشهادة عليه من خلال تبليغ رسائل اجتماعية أو فكرية معينة. 

أما باعتباره "نص"، فيندرج "تويتر" ضمن النصوص الرقمية التي عمل عليها علماء اللغة واللسانيات والنقد الثقافي من أجل تأسيس أصول مفاهيمية وقواعد ينبني عليها الكثير من النظريات لأنها، النصوص الرقمية،  غيرت وبشكل جذري طريقة التواصل والتفاعل بين النص وقارئه. لذلك سنحاول في هذا الجزء من المقالة أن نذهب إلى الدكتور محمد مريني وكتابه "النص الرقمي وإبدالات النقل المعرفي" لنتعرف على ما عملته النصوص الرقمية، وتويتر من ضمنها، من ثورة معرفية وتواصلية. 
للحديث بقية،،، كاظم الخليفة


[٢] "الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"

(الثورة الرقمية وإبدالات الكتابة والقراءة)
١- المعرفة الخلفية، من موهبة إلى ذكاء الآلة:
يرى المريني أن المتكلم في الخطاب الشفهي كان يضطلع بإنتاج النص، في حين يقوم الراوي بنقله إلى مكان أو زمان آخر. فهي عملية تواصلية تتم بطريقة مباشرة يتم من خلالها استحضار الرموز غير اللفظية كالتنغيم وأشكال التلوين الصوتي من أجل التأثير في المستمع. أما حينما بدأ الإنسان بالاعتماد على الكتابه، فهو قد استعمل اليد في نقل النص. وقد استلزمت هذه العملية حضور وسائط أخرى، تتمثل في القلم والورق أساساً. وفي مرحلة سابقة كان الاعتماد على الحجر والصفائح وعسب النخل. لكن مع توظيف الحاسوب في الكتابة واستغلال الفضاء الشبكي، أضيف ملمح آخر لعملية النصوص وهي إمكانية التحكم في النص وتوجيهه وفق متطلبات الكاتب والقارئ معاً. فبلمسة واحدة يمكن الانتقال من صفحة إلى أخرى، أو العمل على تكبير النص أو البحث فيه عن تواتر كلمة من الكلمات. وليس هذا فقط، فمحمد سناجلة في كتابه "رواية الواقعية الرقمية" يقول بأن مفهوم المؤلف الروائي في الأدب الرقمي قد تغير (فلم يعد كافياً أن يمسك الروائي بقلمه ليحط الكلمات على الورق، فالكلمة لم تعد أداته الوحيدة. فعليه أن يكون مبرمجاً أولاً، وعلى المام واسع بالكمبيوتر ولغة البرمجة، كما عليه أن يعرف فن الإخراج السينمائي وفن كتابة السيناريو والمسرح). 
للحديث بقية،،،


[٣] الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"

٢- الوضعية الاعتبارية للمؤلف، من التألق إلى التهميش:
إذا كانت الفلسفة البنيوية قد أعدمت المؤلف رمزياً، فإن الرقمية قد أعدمته فعلياً! بهذه الجملة المستفزة يتنبأ محمد مريني لمستقبل المؤلف فكيف يتم ذلك؟ 
في المرحلة الشفهية كان فيها المؤلف يحضى بوضعية اعتبارية مهمة، وفيها ارتبط الإبداع بالقدسية؛ لذلك شاعت فكرة الإلهام من قوى غيبية خفية. لكن عند ظهور الطباعة فيما بعد، فقد نزل المؤلف من هذا البرج العالي وأصبح شخصاً عادياً بسبب أن الكتاب صار متاحاً وفي متناول الفئات ذات الدخل المحدود، بعد أن كان الكتاب المخطوط يمتلكه النخبة فقط. ثم إن التطور المتواصل للعلوم الإنسانية اصاب كبرياء المؤلف بجروح متلاحقة: فالماركسية ركزت على أهمية الفاعل الجماعي في خلق الأعمال الثقافية بشكل عام. معنى ذلك أن المؤلف الحقيقي للأعمال هو المجتمع، وليس المؤلف الفرد. الجرح الثاني الذي سيصيب المؤلف سيأتي من نظرية التحليل النفسي (إن ما يكتبه المؤلف لا يمكن النظر إليه بوصفه ترجمة أمينة لشعوره الخاص ونواياه الواعية، فالمخزون الفعلي لحقيقة النص هي الحقيقة التي تبقى متوارية في لا شعور المبدع)، ويعلق على هذه المقولة محمد المريني بقوله: لذلك أصبح المؤلف من منظور هذه النظرية إنساناً غير عادي، أصبح شاذاً، أو مريضاً نفسياً؛ إذ وراء الإبداع الأدبي حتماً عقدة مرضية تتمثل في عقد أوديب.

[٤، والأخيرة] "الثورة الرقمية، تويتر نموذجاً"

الجرح الثالث العميق الذي سيلحق المؤلف سيأتيه من الفلسفة البنيوية. لقد أعلن البنيويون بلا تردد عن موت المؤلف (عملية القول وإصدار العبارات عملية فارغة في مجموعها، وانها يمكن أن تؤدي دورها على أكمل وجه دون أن تكون هناك ضرورة لإسنادها إلى أشخاص متحدثين: فمن الناحية اللسانية ليس المؤلف إلا ذلك الذي يكتب، مثلما أن الأنا ليس إلا ذلك الشخص الذي يقول أنا. إن اللغة تعرف الفاعل ولا شأن لها بالشخص). 

المؤلف الرقمي: بعد هذه الجروح الثلاثة التي أصابت المؤلف في الصميم، كما يعددها محمد المريني، ستأتي نهاية المؤلف من التحولات العميقة التي احدثتها الرقمية على عملية التواصل المعرفي والثقافي والأدبي في العالم المعاصر. فطبيعة النص الرقمي تكرس الطابع التفاعلي للعلاقة بين الكاتب والقارئ؛ إذ لم يعد المؤلف يمتلك وحده سلطة القول. من جانب آخر، يلاحظ محمد مريني تراجع "مشاعر الوفاء" التي كانت تطبع علاقة الكلاب بالقارئ في النشر الورقي نتيجة لإنخفاض التكلفة في النقل الرقمي وسرعة الإنجاز والتي عملت على فتح الباب على مصراعيه للولوج إلى عالم النشر من قبل الكثيرين من الأفراد المهتمين. 
أما أهم نقطة عملت على إلحاق الاذى النفسي بالمؤلف، فهي انحسار موهبة الكاتب أمام ذكاء الآلة؛ ذلك أن النص الرقمي لم يعد أسير الكتابة الخطية، بل أصبح مجالاً لتلاقي الخط والصوت والصورة، هذا فضلاً عن العمليات الحسابية والمنطقية. وهذا يكرس فكرة نهاية المؤلف. 



ايشي.. اخر رجل من قبيلته (موضوع عادات الشعوب)



إيشي .. آخر رجل من قبيلته ــ 1 ــ

عماد بوخمسين- عكاظ


(1)


في ذات صباح من سنة 1911م، سمع صاحب مزرعة للمواشي نباح الكلاب، حمل بندقيته ونادى إخوته وخرج ليستطلع الأمر. توجه نحو الكوخ المخصص لذبح الماشية، كانت الكلاب تنبح عند المدخل. دخل الإخوة الثلاثة بحذر، شعروا بحركة خلف أحد الذبائح المعلقة، بدأوا بالصراخ والتهديد «أخرج و إلا أطلقنا النار».


حاول اللص الفرار ولكنه وقع على الأرض فصوبوا بنادقهم نحوه. امتلأت ملامحه بالرعب، لم يجب على أسئلتهم وإنما بقي صامتا ينظر نحوهم بذهول وخوف. كان يرتدي رداء من قطعة واحدة مصنوعا من جلد الغزال و في يده سكين مصنوعة من حجر الصوان. وملامحه وجسمه الناحل تدل على أنه لم يأكل وجبة جيدة منذ شهـور.


ظنوه في البداية مكسيكيا ولكن بعد أن تأملوا وجهه جيدا عرفوا أنه هندي أحمر. تمتم أحدهم: ظننت أن الهنود الحمر انقرضوا في كاليفورنيا!.


اتصلوا بمأمور الشرطة حيث قبض على الهندي و وضعه في السجن، كان المأمور متعاطفا مع الرجل وكان يقصد من سجنه حمايته لا عقابه حتى ينظر في أمره. قدموا له الطعام والشراب وانتشر الخبر في الصحف المحلية واجتمع الناس عند باب السجن يريدون أن يلقوا نظرة على آخر هندي أحمر بري (Wild Indian) في ضواحي مدينتهم.


لم تفلح جميع محاولات التفاهم والتواصل مع هذا الهندي المحتجز، أرسلوا لأحد الهنود الحمر المتمدنين والذي تلقى تعليمه في مدارس الرجل الأبيض ولكنه فشل كذلك في التواصل معه فهما من قبيلتين مختلفتين والكلمات المشتركة بينهما قليلة.


انتشر الخبر في الصحف الأمريكية تحت عنوان: القبض على آخر هندي بري في كاليفورنيا. كان حديث الناس في مدينة لاسن بيك التي تم القبض عليه فيها. بعد أيام جاء مبعوث من جامعة كاليفورنيا إلى قسم الشرطة ومعه خطاب يطالب فيه باستلام إيشي لغرض الدراسة. كان عالِم الانثروبولوجيا الشاب والمتحمس الدكتور ألفرد كروبر قد قرأ عن الحادثة في الصحف، وبما أنه يدير المتحف الانثروبولوجي الذي أنشئ حديثا في جامعة كاليفورنيا فقد وجد من المهم أن يستضيف هذا الهندي الكاليفورني الأخير فهو سيمثل سبقا علميا مهما. هكذا أرسل مساعده الباحث واترمان لإحضاره.


سمح لواترمان بمقابلة إيشي في الزنزانة وكان يحمل معه كتيبا يتضمن كلمات مختلفة من عدة لغات و إلى جوار كل كلمة اسم القبيلة التي تتحدث بها بالإضافة إلى معناها الإنجليزي.


بعد ترديد عدة كلمات على مسامع إيشي بدون أي ردة فعل، وصل الباحث الجامعي إلى كلمة سيويني Si wi ni (وتعني خشب الصنوبر ) هنا تهللت ملامح الهندي وأخذ يردد نفس الكلمة. لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الهندي منذ سنوات. هكذا تم التعرف على قبيلته، إنها قبيلة «ياهي» التي ساد الاعتقاد بأنها انقرضت منذ عقود من الزمن.


تم توفير ملابس جديدة لإيشي تشبه ملابس الرجل الأبيض، ما عدا الحذاء وربطة العنق فهو لم يتمكن من ارتدائهما ربما لأنهما يشبهان القيود. وقف الإثنان على محطة القطار وخلفهما اجتمع الكثيرون من أهل البلدة ومعهم فرقة موسيقية لتوديع إيشي الرجل الهندي البري كما اشتهر عنه.


وفي لحظة ركوبه القطار توجهت سيدة تحمل سلة طعام وفواكه كبيرة إلى إيشي وأعطته إياها وهي تقول: هذه هدية من نساء مدينة لاسن بيك، نتمنى لك حياة سعيدة تعوضك عن آلامك وعائلتك. ونتمنى أن تعرف أن لك أصدقاء من البيض، وليس كلهم أعداءك.


لم يفهم إيشي شيئا من كلماتها ولكن أخذ السلة بابتسامة. وانطلق القطار إلى جامعة كاليفورنيا ليبدأ حياة جديدة كليا.


(2)


كان الدكتور ألفرد كروبر في الانتظار في محطة القطار. كروبر هو من الجيل الأول من الانثروبولوجيين الذين تخرجوا من جامعة كاليفورنيا بعد افتتاح قسم الاثروبولوجيا فيها.


كان يجيد عدة لغات أوروبية بالإضافة لعدد من لغات الهنود الحمر من بينها لغة قبيلة الياهي التي ينتمي إليها إيشي. وكان يحمل على عاتقه بالإضافة إلى بعض رفاقه هموم توثيق تراث الهنود الحمر وأساطيرهم و معتقداتهم بعد أن أيقن أنهم في الطريق إلى الفناء تماما.


تكمن أهمية الهنود الحمر بالنسبة للانثروبولوجيين في أنهم يعتبرون الرابط بين الإنسان المعاصر و إنسان العصر الحجري، حيث إن معيشتهم واعتمادهم التام على الطبيعة يشبه إلى حد كبير حياة الإنسان من العصر الحجري.


استقبل الدكتور ألفرد كروبر ضيفه الجديد بترحاب و إكرام وتبادل معه بعض العبارات بلغة الياهي. وأخذه إلى متحف الجامعة حيث سيقيم إيشي لبقية حياته في غرفة ملاصقة.


توقف إيشي طويلا أمام ثور البايسون المحنط في المتحف، حياة الهنود الحمر كلها كانت مرتبطة بهذا الحيوان الوادع رغم ضخامته. وأثناء التجول في المتحف وجد شيئا مثيرا، جرة فخارية. التفت إيشي إلى كروبر وقال: أعرف هذه الجرة، صنعتها جدتي. إنها جرة من تراث قبيلتي، قبيلة الياهي.


أكد كروبر ما قاله إيشي ولم يفوت الفرصة لكي يسأل بفضوله المعرفي: ما معنى شكلها و إلى ماذا يرمز؟


أجاب إيشي: قاعدة الجرة الضيقة تمثل ضيق نظرة الإنسان في طفولته و وسطها الواسع يمثل غروره عندما يكون له رأي، وفوهتها تمثل تحليق الروح بعد أن يكبر و ينضج.


(3)


حان الوقت ليمنح الهندي الجديد إسما فإلى الآن لا أحد يعرف إسمه. يقول كروبر إن من عادات الهنود الحمر أن لا يصرحوا بأسمائهم للغرباء، ربما لذلك علاقة بالسحر أو ما شابه، وهكذا قرر كروبر أن يطلق على الهندي الضيف اسم «إيشي» و يعني رجل بلغة الياهي، والتصق به هذا الاسم حتى وفاته.


كان إيشي يتوقف مذهولا أمام أشياء كثيرة في بيت الرجل الأبيض. كان يمسك بمقبض الباب و يفتحه و يغلقه عدة مرات، وكلما رأى مقبض باب يفتحه ويغلقه. وكذلك يفعل مع الستائر على النوافذ، كان يراها شيئا إعجازيا. وأثار استغرابه جدا عدم وجود فتحة في أسقف الغرف، وموضع الغرابة في ذلك أن إيشي يقول إذا أشعلت نار الموقد في وسط الغرفة فأين سيذهب الدخان؟! وفي كل ذلك يظهر القياس بين بيت الرجل الأبيض وخيمة الهندي التقليدية Tipi.


أما العصفور العملاق الطائر فكان شيئا خارقا. بقي يحدق في تلك الطائرة كثيرا والتفت إلى كروبر الذي كان يسير إلى جواره في الشارع و سأله: سالدو Saldo ؟ وهي الكلمة التي يطلقها الياهي على الرجل الأبيض. أي هل هذا من صنع الرجل الأبيض كذلك؟ قال كروبر نعم. وعلق إيشي: إن هذا الزمن هو زمن الرجل الأبيض.


بعد حوالى الشهر من وصول إيشي إلى جامعة كاليفورنيا واستقراره فيها برعاية د. ألفرد كروبر، جاء مبعوث حكومي من إدارة شؤون الهنود الحمر في واشنطن يطالب بإرسال إيشي إلى إحدى المحميات الهندية (أنشأتها الحكومة الأمريكية كحل لأزمة الهنود الحمر ) لكي لا يتعرض للاستغلال في الجامعة. رفض كروبر ذلك رفضا قاطعا، وقال هل تريد أن ترسله إلى محميات الموت البطيء ؟، ألا يكفي الملايين الذين قتلتموهم من الهنود الحمر، حتى تحاول أن ترسل هذا المسكين لتدمر حياته و يلقى حتفه؟.


أجاب الممثل الحكومي: بأي صفة تجبره على البقاء عندك؟ هذا استعباد ممنوع حسب الدستور الأمريكي، لا يمكنك احتجاز شخص لديك ضد رغبته؟


أجاب كروبر بسرعة بديهة: إنني الآن قد وظفت إيشي في المتحف الانثروبولوجي التابع لجامعة كاليفورنيا بوظيفة مساعد باحث وبراتب أسبوعي.


والتفت كروبر إلى إيشي الذي كان حاضرا وسأله بلسان الياهي: هذا الرجل يريد إرسالك إلى محمية ترعاها حكومة الولايات المتحدة، وأما أنا فأريدك أن تعمل معي في الحفاظ على تراث شعبك في هذا المتحف. أيهما تختار؟


أجاب إيشي بأنه يريد أن يعيش ويموت في هذا المكان. ترجم كروبر هذه الإجابة مما أنهى الجدال. انصرف الرجل وهو ينظر إلى كروبر نظرات شك في صحة ترجمته!.


يصف كروبر إيشي بأنه كان سمحا غير عدائي بتاتا، وكون صداقات مع الأطفال في الحي المجاور للمتحف. وبسبب وجوده كثر زوار المتحف و اشتهر كروبر ومتحفه في أنحاء أمريكا.


بدأ إيشي يتكلم الانجليزية بشكل بسيط، وكان يتجول في الجامعة و يذهب إلى المستشفى الجامعي كثيرا وهناك كون صداقة مع الدكتور الجراح بوب الذي كان طبيب إيشي الشخصي كذلك.


دخل ذات مرة إلى غرفة الموتى وغرفة المشرحة حيث كان بعض الأطباء يقومون بتشريح الجثث بغرض البحث العلمي والتدريب. أرعبه ذلك كثيرا وأثار فزعه وأبدى استغرابه كيف يفعل الرجل الأبيض ذلك بأبناء قومه الموتى، وقال إنه لا يريد أن يحدث له مثل ذلك بعد أن يموت فهذا سيجعله يتوه ولا يصل إلى أرض الأسلاف. كان يريد بعد موته أن تحرق جثته ويغني له أصدقاؤه لكي تصل روحه بسلام إلى أرض الأسلاف الأبدية.


كثيرا ما يذهب إيشي إلى غرف المرضى المنومين في المستشفى ويبدي تعاطفه معهم ويرقص ويغني لهم رقصة الشفاء الهندية حسب تقاليد قبيلته..





---------------------------

إيشي .. آخر رجل من قبيلته

عماد بوخمسين - عكاظ ٢




في جلسة هادئة، سأل الدكتور كروبر إيشي: ماذا جرى لأهلك؟ حدثنا عن طفولتك؟


في منتصف القرن التاسع عشر، قبل ولادة إيشي، كان تعداد قبيلة ياهي حوالى 400 فردا. ولكنها كانت فترة منحوسة بالنسبة للهنود الحمر في كامل القارة الأمريكية، وبالذات في كاليفورنيا.


جاءت حمى البحث عن الذهب. زحف الآلاف من المستوطنين البيض إلى مناطق نائية بحثا عن الذهب، ويحملون في رؤوسهم معتقدا راسخا بأن الإله قد منحهم هذه الأرض وأن القدر يقضي بأن تكون لهم بكل خيراتها، وكل ما سيمنعهم من ذلك فلهم الحق في القضاء عليه. أما هذا العِرق الأحمر فمقدر له أن يبيد.


لم تكن هذه الايديولوجيا فقط هي المحرك لعمليات القتل والتطهير العرقي، بل إنهم كانوا يعتبرون هذه الشعوب البدائية في درجة أدنى من البشر كأنهم نوع من القردة الذكية أو ما شابه.


كان المستوطنون يصطادون الغزلان البرية ببنادقهم بشكل جنوني. عندما تموت الغزلان أو تهرب من منطقة يتأثر التوازن البيئي فتختفي حيوانات ونباتات أخرى معهم. أكبر المتضررين هم الهنود الحمر، بالذات في موسم الشتاء. وكلما انتقل الهنود لمكان بعيد، لحقهم المستوطنون بحثا عن الذهب أو بغرض صيد الطرائد.


ولو تجرأ الهنود الجوعى على أخذ شيء من أبقار المستوطنين ليسدوا حاجتهم ويطعموا أطفالهم، يكون الانتقام بقتل العشرات من الهنود الحمر دفعة واحدة.


في كاليفورنيا كان اصطياد الهنود قانونيا بل مربحا كذلك. كانت حكومة مقاطعة كاليفورنيا تدفع 5 دولارات مقابل كل رأس هندي مقطوع. وتدفع 50 سنتا لكل فروة رأس مجتزة. في سنة 1854م فقط، دفعت الحكومة الفيدرالية إلى مقاطعة كاليفورنيا تعويضات بقيمة مليون دولار مقابل ما قدمه صيادو الهنود من رؤوس أو فروات رؤوس مقطوعة.


كان هناك أفراد من البيض رفعوا أصواتهم بالاعتراض على هذا العنف الهمجي ولكن ضاعت أصواتهم بلا طائل. بل إن صيادي البشر أولئك كانوا يعاملون معاملة الأبطال والفاتحين في بلدانهم.


*****


تحدث إيشي بأسى إجابة على سؤال الدكتور كروبر. روى كيف رأى في طفولته والده يقتل أمامه بطلقات نارية في ظهره عندما هجم مجموعة من المستوطنين البيض عليهم في قريتهم الوادعة. ظهروا من خلف التل فجأة يحملون بنادق ويصرخون ويطلقون النار على أي شيء يتحرك.


انتقلت القبيلة على إثر هذا الهجوم إلى مكان آخر وتوغلت في الغابة أكثر. ثم بعدها بسنوات حدث الهجوم التالي. العشرات سقطوا كذلك.


مرة أخرى انتقل الناجون إلى مكان أبعد وأكثر وعورة. لحقهم المستوطنون بعدها بسنوات ليقتلوا ما تبقى منهم. بقي على إثر هذا الهجوم الأخير ثلاثة أشخاص، إيشي وأمه وأخته.


طابق الدكتور كروبر الوقائع التي ذكرها إيشي مع الوقائع التي يعرفها البيض من سكان تلك المنطقة، والتي تعرفها الحكومة الأمريكية جيدا كذلك. فوجدها صحيحة وعرف سنة وقوعها.


واصل إيشي حديثه فذكر أنه عاش عدة سنوات مع أمه العجوز وأخته بين الجبال في منطقة يصعب أن يصل إليها أحد. كان الثلاثة هم آخر من تبقى من قبيلة ياهي. يشربون من النهر ويأكلون مما تجود به الأرض، و يسكنون في كوخ خشبي صغير يشبه الكوخ الذي صنعه إيشي بجوار المتحف الإنثروبولوجي.


لم تتركهم عوادي الزمان طويلا. جاء مجموعة من البيض وأطلقوا النار عليهم. حاولوا الهـرب، سقطت الأخت قتيلة برصاصة في الظهـر. أمسك إيشي بأمه العجوز وبدأ يجري، رصاصة أخرى دخلت ظهرها. واصل الجري حتى تمكن من الفرار. ماتت أمه بين يديه.


عاش إيشي بعدها ثلاث سنوات لوحده في البرية. لم ينطق بكلمة مع مخلوق حي. دفعه الجوع في إحدى الليالي من سنة 1911م لأن يدخل إلى مخزن لحوم في إحدى مزارع الرجل الأبيض... فقبض عليه.


صمت إيشي. كانت لحظات مؤثرة. الآن الضحية يتكلم وليس المجرم. الآن الأحداث يرويها القتلى وليس الجرائد الرسمية.


استطاع الدكتور كروبر من خلال الأحداث التي أوردها إيشي ومن خلال الفحص الطبي أن يقدر عمره. كان في لحظة القبض عليه يبلغ من العمر 50 سنة.


*****


جهـز د. كروبر جهاز الفونوغراف وأجرى تجربة تسجيل لإيشي ليعرف وظيفة الجهاز والغرض منه. ثم بدأت جلسات تسجيل صوتي طويلة على اسطوانات شمعية، كان مرض السل قد بدأ يؤثر على صحة إيشي مما جعل جلسات التسجيل متقطعة على مدى عدة أيام.


«حدثنا عن بعض القصص الشعبية التي يتداولها الهنود الحمر في قبيلة ياهي» بدأ كروبر بالحديث.


فيسرد إيشي قصة حب لطيفة اسمها قصة حب بطة الخشب Wood Duck Love Tale عن رجل اسمه أوتوتني U-Tut-Ne يبحث عن زوجة فيغني أغنية جميلة هي أغنية وينوتي Wino-Tay Song لاجتذاب الزوجات. و تنجح الأغنية وتقبل النساء على مصدر الغناء ولكن كلما جاءته فتاة يجد فيها عيبا ويرفضها حتى جاءت فتاة لم ير أحد مثلها من قبل ولا يعرف أحد اسمها وبمجرد أن رآها مقبلة من بعيد خفق قلبه لها. يحدث شجار بين أوتوتني و بين رجل آخر على تلك الفتاة تنتهي بقتل أوتوتني و انتصار الآخر.


يواصل إيشي سرد الحكاية لساعات يتخللها الغناء والإنشاد أحيانا كثيرة. مازالت تلك التسجيلات مثار اهتمام ودراسة الانثروبولوجيين حتى اليوم بحثا عن تفسير لها، تقول عالمة اللغويات ليان هينتون إن إيشي كان في الحقيقة يروي حكايته الشخصية بالذات أنه لم يحظ بفرصة للزواج طوال حياته. تفسير آخر يقول إنه كان يروي قصة الصراع بين الهنود الحمر والبيض على الفتاة الجميلة «الأرض».


في جلسة تسجيل أخرى يسأله كروبر عن قصة الخلق، كيف جاءت الأكوان إلى الوجود، وكيف خلِق الإنسان؟ وأين يذهب بعد الموت؟


هنا تصبح القضية جدية وفي صميم علم الانثروبولوجيا ولكن إجابة إيشي كانت صعبة على كروبر فالتسجيل بأكمله كان بلغة الياهي. فيستعين كروبر بعالم آخر هو الدكتور ادوارد سابير، عالم اللغويات المعروف والخبير بلغات الهنود الحمر، ولكن لم يكن سابير متواجدا و إنما كان مرتبطا بأعمال في كندا. تمكن د. سابير من مقابلة إيشي لاحقا وعمل معه لثلاثة أشهر حتى توقف العمل على إثر تدهور صحة إيشي.


مازالت التسجيلات موجودة بعد أن انقرضت لغة الياهي وانقرضت معها ثقافة مهمة كجزء من التراث الإنساني.


*****


كان هناك أمر غريب في شخصية هذا الهندي الأحمر. بالرغم من كل الظلم الذي نزل به والكوارث التي مرت فوق رأسه والقتلى من أسرته الذين قضوا أمام عينيه، إلا أنه طوال مدة بقائه في الجامعة والمتحف لم يقل مرة أن الرجل الأبيض مجرم سفاح.


لم يتذمر في أي مرة من الظلم الذي عاناه. لم يندب حظه ولم يوجه التهمة لأحد ولم يصرح بأي شيء من ذلك حتى لبعض الأمريكان الذين أصبحوا أصدقاء مقربين له.


في سنة 1914م، حاول كروبر إقناع إيشي بالسفر لرؤية المكان الذي عاش فيه. أراد كروبر أن يقترب أكثر من حياة الهنود الحمر في مكانهم الطبيعي وليس في المتحف. لكن إيشي رفض. احتاج الأمر وقتا ومحاولات متكررة حتى تمكن كروبر من إقناعه.


وبالفعل شدوا الرحال ومعهم واترمان مساعد كروبر الذي أخرج إيشي من مركز الشرطة، والطبيب بوب صديق إيشي الذي كان مغرما بالصيد باستخدام القوس والسهام، ومعهم مساعدان آخران.


وصلوا إلى المكان بعد سفر طويل، كان الجميع متعجبين من وعورة المنطقة ويتساءلون ما الذي دفع أولئك المستوطنين إلى أن يتكلفوا كل تلك المشقة لكي يأتوا إلى هذا المكان ليقتلوا أناسا آمنين ومسالمين.!


كان هناك كوخ خشبي صغير متهدم يشبه الكوخ الذي بناه إيشي خلف المتحف. تعرف عليه بأنه الكوخ الذي كان يسكن فيه مع أمه وأخته قبل أن يلقيا حتفهما.


نصبوا المخيم ليبيتوا ليلتهم بالقرب من تلك المنطقة. هجع الجميع ما عدا إيشي الذي انسحب بهدوء واختفى خلف إحدى الصخور. انتبه له كروبر فتبعه ووجده جالسا قرب ضفة النهر، اقترب منه وسأله ما المشكلة؟


قال له إيشي: أغرس أصابعك في التراب مثلي.


فعل كروبر ذلك مجاراة له. أضاف إيشي: هل تسمع الأرض تغني؟ احتار كروبر في هذا السؤال ولكنه أجاب: نعم.


التقت عيناهما، قال إيشي: هل تسمع صراخ الموتى؟


كروبر صامتا بلا إجابة.


هنا علا صوت إيشي وصاح بانفعال: هل تسمع بكاء المظلومين؟


انهار الهندي الأحمر الأخير بالبكاء والنحيب... بينما تسمر كروبر في مكانه.


*****


كانت رحلة مثمرة لكروبر تم توثيقها بالصور الفوتوغرافية وسجل الكثير من الملاحظات حول الأدوية الطبيعية التي يستخدمها أفراد قبيلة الياهي وطرق الصيد وصناعة الأدوات وغير ذلك. عادوا لبلدتهم حيث المتحف والجامعة ولكن إيشي قبل الرحلة لم يعد هو بعدها.


أصبح قليل الكلام قليل الابتسام يفضل الجلوس لوحده ويتحاشى كروبر بالذات. حتى المرضى في مستشفى الجامعة توقف عن الغناء لهم. كما أن صحته بدأت تزداد سوءا بسبب مرض السل.


لاحظ كروبر ذلك ولم يفهم السبب. لم يجد بدا من سؤال إيشي عن ذلك بشكل مباشر. سأله: هل فعلت لك ما يغضبك مني؟ قال إيشي: أنت تضعني في كتابك الصغير؟ أجابه نعم. قال: وضعت إيشي في كتابك، و لكن لم تضعه في قلبك!.


*****


حصل كروبر على بعثة علمية في نيويورك للإشراف على إنشاء المتحف الطبيعي فيها. كان اتخاذ قرار السفر صعبا ولكنها فرصة لا تعوض لتطوير مهنته. حزم أمره وقرر قبول البعثة العلمية وحان وقت توديـع أصدقائه. تقبل إيشي الأمر بشكل طبيعي. أوصى أصدقاءه أن يعتنوا به جيدا. بعد انتقاله إلى نيويورك بأسابيع وصلته برقية من زميله واترمان يقول فيها إن إيشي بدأ يسعل دما وساءت حالته الصحية وأن الدكتور بوب يعتني به وقد تم تنويمه في المستشفى الجامعي في الغرفة التي كان يغني ويرقص فيها من أجل المرضى.


في أيامه الأخيرة كان يطلب ماء ليشربه فيعطونه ماء ولكن كان يقول ماء الأنابيب ليس بماء، أريد ماء الينابيع.


في سنة 1916م، بعث واترمان برقية لكروبر يخبره فيها بوفاة إيشي. وهنا أبرق كروبر للدكتور بوب يقول: «لا تشريح لجثة إيشي. فليذهب العلم للجحيم».. وصلت البرقية متأخرة فقد كانت عملية التشريح قد بدأت بالفعل (لغرض البحث العلمي). ثم تم حرق جثته ووضعها في جرة و حفظت في المتحف. في سنة 2003 م طالبت بعض الجمعيات التي تعنى بحقوق الهنود الحمر باستعادة رفات إيشي ولا يعلم الآن مكانها..


الاثنين، 27 يوليو 2015

مقالات في الخوارج >>

مقالات في الخوارج



بقلم الاستاذ : عبدالله الرستم 





يبدو أنه ﻻ خلاف في نشأة الخوارج، والذي كان إبّان حرب صفّين الواقعة بين علي (ع) ومعاوية، وفتنة التحكيم.
والمطّلع على هذه الفتنة بأحداثها ومراحلها التاريخية يكاد يصل أن ما جرى حركة سياسية وليست دينية، ودليل ذلك عدم ثباتهم على رأي، حيث انقلبت الموازين منذ البذرة اﻷولى، فكان هناك أتباع رأس الخوارج نافع بن اﻷزرق، وأسماء أخرى برزت منذ البداية ..

نعم لهم مواصفات عبادية كاسوداد الجباهِ من كثرة السجود، وكثرة صﻻتهم، وكثرة قراءتهم للقرآن الكريم، إلا أن ذلك لم يغيّر من وضعهم شيئاً في اﻻلتفاف نحو قائد ديني، ولذا اختلفت معايير التكفير في شخوص ما.

ولعلنا بحاجة إلى قراءة ثقافة كل رمز من رموز الخوارج؛ للتعرف على حقيقة كل شخص إذا ما أردنا استنطاق الحقيقة، فجﻻء اﻷمر يبزغ نوره من خﻻل استقراء التاريخ بكل حيادية، فما اشتهر عن رموز الخوارج شخص فقيه، وﻻ محدّث (في حدود علمي)، ولذا كلٌّ يفتي كيفما شاء.

حصل انشقاق عند الخوارج منذ البداية، ففرقة اسمها النجدات والأزارقة وغيرهما، وكلها انقرضت كما يشير بعض كتّاب المقاﻻت والفرق.


الحديث عن فرقة الإباضية ليس بعيداً عن الجو، فاﻹباضية تختلف في المنحى، فهي وإن وافقت بعض عقائدها عقائد الخوارج من تكفير من قبل بالتحكيم، إلا إنها ترى أنه كفر نعمة وليس كفر ملّة.

اجتمع عنصران رئيسيان في نشوء الإباضية وهما:
- التخطيط وصاحبه: عبدالله بن إباض التميمي.
- الاتجاه العبادي وصاحبه: جابر بن زيد العماني، والذي كان يحدّث عن الصحابة الكبار كعبدالله بن عباس، وله كتاب في الفقه يحتوي على مروياته، وقد رأيته بنفسي.

فجانب التخطيط السياسي بدعامة التوجه الديني يصنعان دولة وإن كانت صغيرة، وهذا ما جرى حيث أقيمت دويﻻت للإباضية (وليس للخوارج) في أفريقيا وعمان، ومع تطوّر الزمن تغيّرت كثيرٌ من الأحكام عند اﻹباضية في قضايا التكفير وغيرها، ومن أرادها فليرجع إلى مظانّها.

سبب انقراض الخوارج وفكرهم، هو أنهم تعرضوا إلى مواجهات عنيفة بحكم عنفهم واستباحة دماء المسلمين ممن ﻻ يقول بقولهم، فقد قاتلهم في البداية أمير المؤمنين (ع)، ومن ثم قاتلهم اﻷمويون، ثم العبّاسيون حتى انقرضوا.

على خﻻفه عند اﻹباضية التي وإن كانت توافق بعض أفكار الخوارج إلا إنهم استطاعوا صناعة مذهبٍ فقهي وعقدي يتماشى مع الزمن، فهم وإن كانت بعض المسائل ﻻ زالت لصيقة بهم، إلا إنهم بدأوا يتجاوزون ماﻻ يتناسب مع الحياة، مثل: كفر علي بن أبي طالب، والذي بدأ يتطور مع الزمن إلى محبّته ومحبة العترة الطاهرة.


كل فرقة تبدأ بإشهار السﻻح دون وعي، فمآلها إلى الزوال، والخوارج من تلك الفرق والتاريخ كفيل بالتحدث عن الفرق المسلّحة ذات التوجه السياسي الصِرف، ناهيك عن التيارات الدينية التي ربما ترى مصلحتها في الديمومة فتقدم تنازﻻت لكي تبقى، كاستخدام التقية، وإخفاء بعض ما ﻻ يتناسب مع الجو السياسي.

اﻹباضية كان أول أمرها في الخوارج، إلا أنهم خالفوا تيار الخوارج لما آلوا إليه من تكفير شريحة كبيرة من المسلمين، فالمسألة نابعة من فهم التكفير،  ولربما أحبوا اعتزال الحرب كما هو مفهوم تاريخهم، فاعتزلوا تيار الخوارج، وتكون لديهم تيار وصاحبه عبدالله بن إباض التميمي.

أما رأيهم في الإمام علي (ع)، فشتّان بين أقوال المتقدمين والمتأخرين، فالمتأخرون يتبرؤون مما نُسب إليهم في تكفير الصحابة والإمام علي (ع)، ويرون أن ذلك مفترى عليهم.


وفي هذا الصدد كل شيء يتغيّر في تاريخ المذاهب، فالإباضية كما يُنقل عنهم في كتب المقاﻻت والفرق لهم تاريخ يختلف عن التاريخ المعاصر، ولذا أقاموا دولة وكونوا مذهباً .. بيد أن الخوارج ليس لهم مذهب وتاريخهم مليء بالدماء.

وكما ذكرت فإنهم يتبرؤون ممن ينسب إليهم تكفير الصحابة، ويؤولون ما نُسب إليهم من تكفير أو يرون أن ذلك خﻻف الحقيقة.


الحديث عن فرقة ما يحتاج إلى شحذ الهمة واستيقاظ الذهن، فما ذُكر عن الخوارج والإباضية في بداية النشأة ينبغي التفريق بين أمرين وهما:
- نشأتهم كتاريخ وتيار سياسي.
- نشأة عقائدهم والمنظرين لتلك العقائد.

حيث إن من كتب تاريخهم هم المعارضون لهم، وربما صبّوا النار على الزيت - المعارضون - وهذا ما بغض الناس فيهم وتعمدوا الكذب عليهم.

فمن يقرأ كتب المقاﻻت والفرق ﻻ يناقش مسائل المخالفين مناقشة جادة، بل المناقشة تأتي من صميم العناد والخﻻف بين التيارات في تاريخ صدر الإسﻻم. لذا ينبغي التعاطي بهدوء مع تاريخ أي فرقة (فلعل) ليس التهم المنسوبة إليهم حقيقية، بل هناك من يكذب على الفرق المخالفة، وهذا ما حصل للشيعة، وهذا ما أقره غير واحد من كتّاب المقاﻻت والفرق.

انتهى.

قرأت قبل سنوات دراسة في شعر الخوارج للأستاذ/ علي فجّال، والدراسة ليست لدي في الرياض بل هي في الأحساء (قاتل الله الغربة التي تبعدني عن مصادر ثقافتي)، وهي دراسة على ما أتذكر توضح قدرة شعراء الخوارج وقوّة شعرهم وأدبهم، خصوصاً وأن ثقافتهم عربية وقرآنية، والحروب تصنع شعراء ﻷجل محاربة الخصم في هذا الجانب، فليس غريباً أن يكون لديهم شعراء وقرّاء، إلا أن تاريخهم المسلّح قضى عليهم.


لو كان تيار الخوارج طالبوا حقيقة لما آل أمرهم إلى الزوال، ولذا نرى أمير المؤمنين (ع)، أمر أن ﻻ يقاتل الناس الخوارج من بعده، وقال عنهم: كلما نجم منهم قرن قطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سﻻبين).

فلو كانوا طﻻب حقيقة لما آل أمرهم إلى السلب والقتل والنهب، بل إن بداية أمرهم كان القتل حيث قتلوا عبدالله بن خباب وزوجته الحبلى، ومن تكون بداية أمره دماً فﻻ شك أن عمله ليس لله سبحانه وتعالى، وأمره إلى الزوال.


شواهد من تعامل الإمام علي مع الخوارج:

إن سلوك الإمام عليه السلام مع الخوارج من خلال مواقف متعددة يبرز لنا مدى التزام الإمام بمبادئه التي اختطها لنفسه، واقتبسها من تعاليم الدين الحنيف، فقد قال أحد الخوارج ذات يوم بعد أن سمع كلاما له عليه السلام: قاتله الله كافراً ما أفقهه، فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام: رويداً إنما هو سب بسب، أو عفو عن ذنب[1].

وكذا موقفه مع ابن ملجم حينما ضربه، فقد أوصى به بقوله: قد ضربني فأحسنوا إليه وألينوا له فراشه، فإن أعش فهضم أو قصاص، وإن أمت فعالجوه، فإني مخاصمه عند ربي عز وجل[2]، وقد جعل يتفقده ويقول: أرسلتم إلى أسيركم طعاماً؟[3].

وهذا يؤكد لنا أن أمير المؤمنين عليه السلام ليس له إلا تطبيق معالم الدين وآدابه، مقدّماً رضا الله عز وجل على رضا نفسه، وما أكثر النماذج في حياته التي نذرها لله عز وجل.

--------------
[1] نهج البلاغة، الشريف الرضي، تصنيف: صبحي الصالح كلامه u رقم (420).
[2] المستدرك على الصحيحين، النيسابوري، ج3 ص155 حديث 4691/289.
[3] الفتوح، ابن أعثم، ج4 ص279.




مشكلة الخوارج أنهم قشريّون، أي إنهم يأخذون بظاهر اللفظ القرآني وليس لديهم أي معرفة بالقرآن الكريم، ولذا نشأت عندهم مسألة التكفير ﻷخذهم بظواهر الآيات التي وردت فيها كلمة (كفر).

والمتتبع لسيرة أمير المؤمنين (ع) معهم، أنه قال ﻻبن عباس حينما أرسله لحوارهم: يا بن عباس ﻻ تجادلهم بالقرآن فإنه حمّال أوجه، ولكن جادلهم بالسنة فإنه ﻻ محيص لهم عنها (بما معناه).

فكان في بدء الحرب أن جادلهم أمير المؤمنين (ع) فتحوّل إلى جيشه مجموعة كبيرة منهم، وكذا حينما جادلهم ابن عباس تحولت مجموعة كبيرة لجيش الإمام .. ولو استمر الجدال لتحوّل عدد كثير، إلا إنهم ﻻ يزالون على أن علياً مذنب وكافر يجب مقاتلته ﻷنه لم يتب من ذنبه (وقصدهم بذلك التحكيم).

لذا مسألة التكفير أخذت صداها في نشأة أفكارهم، حتى وصلوا من هشاشة فكرهم أن أطفال من يقاتلونهم يستحقون النار بجريرة فعل آبائهم.


 جولة مع الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسﻻمية) (فصل الخوارج).

الشيخ أبو زهرة هذا العالم الموسوعي، ينقصه التوثيق، فهو كما يبدو لي في بعض كتبه أنه ﻻ يوثق إلا قليﻻً، وإن وثّق فهو ﻻ يذكر تفاصيل المصدر الذي ينقل منه، وهذا خلل منهجي.

فهو حينما ذكر نشأة الخوارج وتفرقهم وانشقاقهم أتى بآراء ﻻ أعلم إن كانت صحيحة، فبعضها قد يكون سليماً من حيث المبنى كأن يكون الخوارج من بني حنيفة من اليمامة وهذه مسألة مهمة والتفاتة رائعة، وهذا ينبغي على دارسي عقائد أصحاب الفرق النظر في اﻷصول القبلية لزعماء الفرق، وفعﻻً إن جزءاً كبيراً من الخوارج هم من اليمامة، وطبيعة اليمامة الصحراوية والجافة تخلق فكراً متشدداً كالخوارج وما شابههم.

مسألة أخرى أشار إليها وهي أن بعض فرق الخوارج دعوا إلى إلغاء الشريعة المحمدية وإرساء قواعد شريعة جديدة، وأصحاب هذه الدعوى بعض الموالي من الفُرس، بحجة أنه لم يُبعث من قومهم نبي .. وغيرها من اﻵراء.

هذه اﻵراء وغيرها مهما كانت تصدر من تحليل وذائقة تاريخية إلا إنها بحاجة إلى تحليل أعمق؛ ليتم قبولها .. بعيدة عن النزعة القومية وما شابه ذلك ..



 شبهةٌ ورد

ذكرتُ سلفاً أن محمد أبو زهرة في كثيرٍ من منقوﻻته ﻻ يذكر المصادر، وهذا مؤسف بحق شخصية كبيرة كأبي زهرة.
فقد ذكر عن الميمونية من الخوارج أنهم أنكروا سورة يوسف ولم يعدّوها من القرآن؛ ﻷنها قصة غرام في زعمهم، فﻻ يصح أن تُضاف إلى الله.

في حين أن أبا الحسن اﻷشعري (ت 330) في (مقاﻻت الإسﻻميين) يشكك في ذلك حيث قال: وحُكي لنا عنهم ما لم نتحققه أنهم يزعمون أن سورة يوسف ليست من القرآن.

في حين أن الدكتور/ عامر النجّار يذكر القولين مع إحالته للمصادر، ولضيق الوقت لم يسعفني الوقت للمراجعة، فقد قال:
وحكى الشهرستاني (ت 479) والبغدادي (ت 429) عن جماعة الميمونية إنكارهم كون سورة يوسف من القرآن، لكن اﻷشعري يشكك في صحة نسبة هذا القول إلى الميمونية.

المطلوب:
مع مﻻحظة الفارق الزمني بين أبي الحسن الأشعري ومن تﻻه كالشهرستاني والبغدادي، فإن التشكيك واضح، حيث إلغاء شيء من القرآن بحاجة إلى تثبت وهذا ما قام به أبو الحسن، في حين أن البغدادي المتحامل على كل من يخالفه يرى أنهم ينكرون أن سورة يوسف من القرآن.

لذا أقول: التثبت مطلوب، فليس كل ما ذُكر صحيح في حق جماعة نختلف معها.



لو كانت النسبة صحيحة لاتفق في نقلها معظم من كتب في المقاﻻت والفرق، كابن حزم، والمقريزي واﻻسفراييني وغيرهم كثير ممن طرق باب هذا الجدل القائم بين الفِرَق.
ومعلوم أنه ﻻ ضابطة تُذكر عند أصحاب هذه المصنّفات، وإن ذُكرت الضابطة فإن اﻻلتزام واختراق هذه الضوابط أمرٌ وارد عند بعضهم، فالعصبية المذهبية تقتحم هذه اﻷجواء بكلّ قوة.


توجيه قد يكون وجيه

بالنسبة لمن ينقل بعض اﻵراء المكتوبة عن الخوارج، وخصوصاً في كتب المقاﻻت والفرق، عليه مراعاة التسلسل الزمني للمصنّفين، وكذا انتماءاتهم المذهبية، والأجواء التي عاشوها، وغيرها من الأمور ذات اﻻعتبار العلمي، حيث معظم هؤﻻء ينقلون بما تمليه عليهم العصبية المذهبية ونحوها من اﻷمور التي تفرّق وﻻ تقرّب.
لذا فهناك من يفرّع فرق الخوارج إلى فرق كثيرة من أجل التشنيع عليهم، ولعل المطّلع على لغة بعض المصنّفين يرى كيفية التعاطي مع آراء المخالفين له، وينزّه ساحته وﻻ يتطرّق لها وكأنها قرآن منزل.



وقفة مع د. لطيفة البكاي في كتابها (الخوارج)

1- أطلقت الدكتورة البكاي في بعض فصول كتابها بعض التهم غير العلمية، مثل قولها:
وتبالغ المصادر كثيراً عند حديثها عن النتائج العسكرية للمعركة، حيث تذكر أنها أسفرت عن مقتل عشرة فقط من جانب علي ونجاة عشرة من الجانب المقابل. ويضيف بعض الرواة أن علياً نفسه تكهّن بهذه النتيجة قبل اندﻻع القتال. وتبدو هذه الروايات غير مقبولة ﻻﻷنهاتدخل في باب التنبؤات والخوارق، وهي صفات ألصقتها الشيعة بعلي في فترة متأخرة).

2- قولها: ويذكر الرواة عند سردهم ﻷحداث النهروان أن علياً أمر أصحابه بعد نهاية المعركة بالبحث بين القتلى عن رجلٍ ناقص اليد في عضده شامة تمتد كهيئة الثدي وهو الشخص الذي أخبره الرسول أن أن يكون العﻻمة المميزة لقوم سيخرجون يتكلمون كﻻم الحق ﻻ يتجاوز حلوقهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية وقد عثر أصحاب علي على جثة هذا الرجل بين القتلى، ففرح عليّ من صحة موقفه في هذه الحرب).


الرد على تلك الشبهات:

1- إن هذه الروايات ليست ببعيدة عن الواقع، حيثها وردت في المصادر التاريخية والحديثية وخصوصاً القديمة منها، بما فيها المصادر الشيعية والسنية، ومنهم: تاريخ اليعقوبي وتاريخ ابن أعثم واختصاص الشيخ المفيد والسنن الكبرى للبيهقي ...الخ.

2- الباحثة نقلت الروايتين من مروج الذهب للمسعودي وتاريخ الطبري وهما من المتقدمين، فكيف جاز لها اتهام الشيعة؟!!!!!



مسألة أخرى

هناك بعض المؤرخين المعاصرين لهم موقف من التنبؤات المرتبطة بالنبي (ص) أو أمير المؤمنين (ع).

هم في حقيقة اﻷمر ﻻ يبرزون استغرابهم؛ لكنهم يحاولون التعليق على النص وتهميشه وكأنه من الخوارق والتنبؤات التي أتت بها الشيعة أو المسلمون لتثبت بعض المسائل وأنها ملفّقة .. وهذه مسألة غير علمية، فبعض التنبؤات لها مصادر شتّى وليست من المسائل الغريبة في تاريخ الإسﻻم، خصوصاً من شخصيات لها صيتها الذائع.

لذا من يقرأ بعض كتب الدراسات التاريخية المعاصرة سيرى شيئاً مما قلتُ، وﻻ أعلم لماذا ﻻ يقبلون بعض التنبؤات!!
خصوصاً وأن التنبؤات المعاصرة من قبل بعض السياسيين المعاصرين تجاه حدث ما، أمر مقبول، فلماذا ﻻ يتم معالجة بعض أحداث التاريخ بأن هذا القائد يمتلك الحنكة والفراسة في استقراء الأحداث ويدلي بدلوه إزاء أي حدث جرى؟!.

ما ذكرته نموذج حول اﻹشكاﻻت التي طالت الخوارج، فالبعض ﻻ يحاول التفريق بين تاريخ الخوارج وما آلت إليه بعض فرقهم في الوقت الحاضر.
وهذا ما وقعت فيه الدكتورة البكّاي ..


 شخصيات الخوارج

هناك بوادر لوجود الخوارج في زمن النبي (ص)، ومنها قول أحد الصحابة وهو: زهير بن حرقوص السعدي لرسول الله ذات مرة (اعدل يا محمد) فقال في حقه رسول الله: سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين ...الخ (بما معناه).

ما أريده من الشاهد السابق
أن دراسة شخصيات الخوارج دراسة مستفيضة أمر مطلوب؛ وذلك للتعرف على تاريخ رجال الخوارج وأن بعضهم ليس له من المعرفة شيء في الدين، أو كان أعرابياً أو غير ذلك من الصفات التي تساهم في أن يكون هذا الشخص ضمن تيار الخوارج.

موضوع الخوارج موضوع واسع جداً، وإذا كانت رؤيتي أن جُل الفرق والمذاهب لها صراع على قضية التكفير، فقد ذكر البعض أن من المسائل ذات الجدل الواسع عند الخوارج وغيرهم هي مسألة (الحكم).
هل يحكم المولى؟
وهل يحكم القرشي؟
وهل يحكم غير القرشي؟
...الخ.


 ضوء على دراسة معاصرة

بين يدي دراسة بعنوان (دراسة في الفرق والطوائف الإسﻻمية لمؤلفها/ أحمد عبدالله اليظي.

يقول مصنّف هذا الكتاب أنه طرح شيئاً جديداً في كتابه، حيث ابتعد عن ذكر ما ذكرته الكتب المتقدمة وابتعد عن السرد التاريخي وأنه طرحه بطريقة مبتكرة، حيث قضى فيه 18 عاماً في تصنيفه.

تصفحت ما ارتبط بتاريخ الخوارج فرأيته لم يضف شيئاً جديداً، فقد دوّن ما ارتبط بتاريخ الخوارج في 15 صفحة، سرداً تاريخياً خالياً من التوثيق، ثم إنه ذكر فرق الخوارج والتي عدها إلى 35 فرقة.

وعجبي من هكذا كتب حينما يأتي إنسان يعيد ما ذكره المؤرخون دون مناقشة، خصوصاً وأن أصحاب فرق الخوارج، يذكر أسماءهم وﻻ يذكر شيئاً من سيرتهم، وﻻ حتى يتطرق إلى شيء من عقائدهم، فقط يسرد اﻻنشقاقات  التي تجري بعد وفاة أحد زعمائهم، دون ذكر أي معلومات مهمة تضاف في هذا الصدد.

لذا ينبغي التنبه من (بعض) كتب المعاصرين في ذكر ما يتعلق بالفرق، فهي إحدى الحاﻻت التالية:
- سرد تاريخي.
- غياب التوثيق.
- إعادة صياغة.
- ﻻ جديد يُرتجى منها.



الخوارج في البحرين

لعل من المسائل التي لم نسمع عنها أن الخوارج وصلوا إقليم البحرين (اﻷحساء والقطيف والبحرين)، فقد ذكر خليفة بن خيّاط في تاريخه ص278 سنة 79، أن الريّان النكري خرج في قرية طاب بالخط، وقدم عليه ميمون الحروري من عمان.
وكذا التقى الريان النكري في البحرين مع يزيد بن أبي كبشة.

وحصلت أحداث، وﻻ بد لهذه اﻷحداث أسباب وتفاصيل كثيرة. وسأوردها ما وسعني ذلك، مستعيناً ببعض المصادر.


لماذا توجه الخوارج إلى البحرين؟

اتخذ الخوارج البحرين ضمن المناطق التي يريدون بث دعوتهم فيها، وذلك ﻷسباب كثيرة، منها:

- أن البحرين تشكل قوة اقتصادية وكثافة سكانية.

- ابتعاد البحرين عن المركز الرئيسي للحكم (الدولة الأموية).

- رواج دعوة الخوارج عند (بعض) سكّان البحرين ﻻ يعني القبول بأقوالهم ومعتقداتهم.

- كانت البحرين بعد صدر الإسﻻم مصدر تمرّد، حيث يتم إرسال المعارضين إليها، ومنها خرجت ثورات كثيرة، والتي منها الخوارج، وثورة الزنج، والقرامطة، وغيرها.

- تفاعل إقليم البحرين مع الخوارج ليس لمعتقداتهم، بل للظلم الذي يحيق بهم من قبل الدول الرئيسية.

- وأسباب كثيرة يمكن على مُستنطق التاريخ أن يخرج بأسباب عديدة.



عقائد الخوارج

عوداً على عقائد الخوارج، فإن أقوالهم لم تلق رواجاً عند سكّان إقليم البحرين، حيث قبيلة عبدالقيس ذات السيادة كان أغلبها موالون لبني هاشم، والمسألة كذلك مصالح قبلية وسيادية.

فقد أخذ الجدال مأخذه عند جماعات من الخوارج، وبلغ الجدل أوجه، وعلى سبيل المثال في المسائل ذات الجدل الذي حصل بينهم:
- قتل الأطفال من غير الخوارج.
- استخدام التقية.
- الجبر واﻻختيار.
- ... وغيرها من عقائد الخوارج التي كثر الجدل حولها.

وهذا الجدل سبب رئيس في حصول بعض اﻻنشقاقات عن الفرقة اﻷم، حيث خالفت جماعة فرعية في رأي مع جماعة فرعية، وهكذا تفرّعت إلى جماعات حتى بلغت ال35 جماعة حسب تصنيف بعض كتب المقاﻻت والفرق.



 أين الحقيقة؟

لعل من يريد البحث في تاريخ الخوارج، عليه أن يقرأ مصادر الخوارج أنفسهم، وليس أمامنا سوى كتب الإباضية، حيث لديهم مصنّفاتهم التي تحكي واقعهم، وﻻ بأس أن نضم ما كُتب عنهم في كتب التاريخ وكتب المقاﻻت والفرق وعمل مقارنة، فالمقارنة ضرورية في هكذا بحوث.

صحيح أن تاريخ الخوارج قائم على سفك الدماء، إلا أن هناك من ألصق بهم ما ليس فيهم، أو مبالغة في بعض اﻷحداث، كاﻻنشقاقات التي بالغ فيها أصحاب المقاﻻت والفرق، وهي في واقع اﻷمر مجرد انشقاق جماعة عن جماعة، حيث تخالفهم في بعض اﻵراء وتوافقهم في كثير من الآراء العامة للخوارج.
وهذا الخﻻف قد يصل حد استخدام السﻻح، وقد ﻻ يصل، خصوصاً وأن اﻻنشقاق قد يكون سببه مسألة واحدة وليس في المسائل كلّها.
ولهذا أسبابه الموضوعية.



 كتب المقاﻻت والفرق والخوارج

من اﻷمور التي نفتقدها في كتب المقاﻻت والفرق، أنها ﻻ تذكر تواريخاً محددة بالسنوات، وﻻ أسماء مناطق، وﻻ وﻻ.
وهذه المسائل (ذكر التاريخ والمناطق) تساهم في قراءة الحدث بشكل أدق، وكذا ينقص كتب المقاﻻت والفرق اﻷسماء الكاملة لبعض المنشقّين من الفرقة اﻷم، كأن تّذكر كنية الشخص وﻻ يُذكر أسمه.

وكما ذكرتُ سلفاً معلومة من تاريخ (خليفة بن خياط) وهو من المؤرخين المتقدمين حيث توفي عام (240 هجري)، أي قبل الطبري المتوفى (310 هجري).
فغياب المعلومات الدقيقة حول أسماء اﻷشخاص والمناطق يعد خسارة في فقدان بعض المعلومات المهمة التي تساعد على قراءة الحدث بشكل أدق.



المستشرقون والخوارج

للمستشرقين آراء عدة حول الخوارج، وﻻ يسعنا حصر تلك الدراسات وتقييمها، إلا أن اﻻطﻻع على بعض اﻵراء تنبيك أن هناك من يقرأ الخوارج قراءة أخرى غير القراءة التقليدية، أو على اﻷقل هناك من تأثر بأقوالهم - المستشرقين - من الكتاب الباحثين العرب.

وليس في ذلك غضاضة من اﻻستفادة بتلك الأطروحات المتنوّعة، خصوصاً إذا لم تكن تلك القراءات غرضها تشويه صورة الإسﻻم كأن يُقال مثﻻً: بأن الخوارج يمثلون الإسﻻم كلّه، نكاية بالمسلمين.

فمن تلك القراءات أن المستشرق (ليفي دﻻفيدا) له رأي في قضية التحكيم، حيث يقول: ويكاد يكون من المحقق أن الرواية التي تذهب إلى أن الخوارج تآمروا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص والي مصر رواية منحولة).
ﻷنه يرى أنه لم يتحقق شيء من تلك اﻻتفاقية، فهو يرى أن قضية التحكيم شيء، وحركة الخوارج شيء آخر، وقد وافقه في هذا الطرح الدكتورة/ لطيفة البكّاي على ما أتذكر، ولعل قارئاً فطنا من العرب يرى هذا الرأي إذا ما قرأ الحدث بعيداً عن نصوص التاريخ.

والقراءات المختلفة غالباً ما تأتي عبر دراسة كل مرحلة على حدة، وقراءة كل شيء له صلة بهذه الحركة الدموية.


قلتُ سلفاً وأقول: إن الخوارج حركة دموية، ولكن في قناعتي أن كل فساد يتبعه جانب إيجابي، فمن الجوانب الإيجابية التي يذكرها (ليفي دﻻفيدا) والدكتورة/ لطيفة البكّاي، أن الخوارج فيما بعد فتحوا باب العقليات، باعتبار أن ارتكاز حركتهم على قضية الإيمان والكفر والعقاب ...الخ، وكل هذه المسائل لها صلةٌ بالجانب العقلي، ومعلوم أن الجانب العقلي المعتمد على الجدل يأخذ بالإنسان إلى زوايا كثيرة في تصحيح مسار الفكرة.

فرغم الجدل الدائر بين الخوارج أنفسهم ومعارضيهم في قضية الجدل، فقد خسروا بعض أتباعهم بحيث ساهم ذلك في حصول اﻻنشقاقات فيما بينهم، في حين أنهم بدأوا في إعادة ترتيب الأوراق، مما جعل لديهم شريحة من المنتمين إليهم في صناعة مرجعية فقهية لهم.

إضافة إلى ذلك وكما ذكرنا سلفاً، أن قوّة بيانهم وبﻻغة شعرهم ساهمت في انتشار مجالس الجدل واستقطاب بعض الرموز من المسلمين، ولهذا دوّن الجاحظ وغيره من مؤرخي الأدب الشيء الكثير عن أخبارهم وأشعارهم وخطبهم التي قد تستحق الدراسة من ناحية لغوية.


ﻻ أستطيع الإسهاب في هذه النقطة، بيد أن شريحة من المستشرقين درسوا هذه المرحلة بجميع أبعادها، ولعل موسوعة (دائرة المعارف الإسﻻمية) تُعد من الموسوعات المهمة في هذا الميدان، حيث ساهم كبار المستشرقين في إنشاء هذه الموسوعة والتي تدرس كل حدث على حدة وإن اختلفت آراؤهم، مثﻻً:
حينما تريد أن تقرأ عن الخوارج فما عليك إلا أن تبحث عن المادة المشتقة منها (خوارج)، وفي هذه المادة تجد إحاﻻت إلى أبحاث في ذات الموسوعة لها صلة بالمادة نفسها وفق ترتيب هجائي، مثل: (حروراء) لتجد شيئاً يثريك وإن اختلفت مع الكاتب، أو (الصفرية) كفرقة من الخوارج وتجد فيها ما يساهم في قراءة الخوارج من زوايا أخرى.



ابن عبّاس والخوارج

يعد ابن عبّاس من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسﻻمي، ووقوفه بجانب أمير المؤمنين (ع) ﻻ يُنكر، حيث كان مﻻزماً له، ولذا اختاره أمير المؤمنين (ع) نيابة عنه في التحكيم، بيد أن الخوارج أبوا عليه ذلك، واختاروا أبا موسى الأشعري.

ثم بعد ذلك أرسله إلى الخوارج بعد أن اعتزلوا الكوفة وأقاموا بحروراء (قرية على ميلين من الكوفة)، وبحسب المحاججة التي تذكرها كتب التاريخ ومنهم (ابن أعثم الكوفي، ت 314) فإن ابن عبّاس كان حكيماً في ومتحدثاً بارزاً مع الخوارج، فقد استطاع ابن عبّاس من خﻻل حواره أن يحج القوم بقوّة منطقه وبيانه، إلا إنهم عارضوه رغم انكسار الشخص الذي اختاروه نيابة عنهم أمامه، فطلبوا أن يأتيهم أمير المؤمنين (ع) لمحادثتهم إياه.

وكان لهم ما طلبوا، حيث جاءهم أمير المؤمنين (ع) وحاججهم، وقد نتج عن هذه المحاجّة تراجع جزءٍ منهم عما أقدموا عليه من حربه عليه السﻻم.

لذا فابن عبّاس يعد في طليعة الأشخاص المفوّهين، ولوﻻ ثقة أمير المؤمنين (ع) فيه لما أشخصه إليهم لمحاورتهم، وهذا يعطينا درساً أن في مثل هذه اﻷمور (الفتنة) أن يكون الشخص المحاور من أوسع الناس علماً وحلماً وحكمة.


مع الدكتور الشكعة في (إسﻻم بﻻ مذاهب)

في فصل (الخوارج) من هذا الكتاب، نرى أن الشكعة يكتب تقريراً مفصﻻً عن الخوارج وفرقها، موثقاً معلوماته بشكل أفضل من غيره الذين كتبوا في هذا الميدان، ويذكر معلومات عن بعض زعماء الفرق الرئيسة والفرعية، وهذه المعلومات تساهم في التعرّف أكثر على مدى علميّة اﻻدعاء في بعض اﻵراء التي يؤمن بها أصحاب الفرق.

وكذا يتطرق إلى التطور الذي يحصل لبعض الفِرق كنوع من التعرّف أكثر على مسيرة الحياة العلمية لبعض فرق الخوارج، ورغم اختزاله لبعض المعلومات إلا أن اختزاله - حسب رأيي - لم يخل بالموضوع الأساس، وهذه قدرة يمتلكها بعض الباحثين في اختزال الفكرة دون المساس بأصل الفكرة التي يريد إيصالها للقارئ.


 وقفة مع الشهرستاني (ت 548هـ) في الملل والنحل

يعد كتاب الشهرستاني من الكتب المهمة في هذا الميدان، فرغم أنه وضع خطة لكتابه وضوابط لما يخطه قلمه، إلا أنه لم يلتزم بذلك، وإليك بعض ما قاله في خطبة كتابه:

- ومن المعلوم الذي لا مِراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما، عُدّ صاحب مقالة، وإلا فتكاد تخرج المقالات عن الحصر والعد، ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجواهر مثلاً معدوداً في عداد أصحاب المقالات.

- وما وجدتُ لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمّة كيف اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر.

- وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما جدته في كتبهم، من غير تعصب لهم، ولا كسرٍ عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده، وأعيّن حقه من باطله ...الخ.


كارثة الفِرَق

من فِرَق الخوارج فرقة (الصفرية) وهي التي تُنسب إلى أكثر من شخص قد بلغوا خمسة أشخاص تقريباً، ومنهم (عبدالله بن الصفار التميمي) الذي افترق عن نافع بن اﻷزرق في مسألة قتل أطفال ونساء المخالفين لنافع.
فقد خالف الصفار نافعاً ليُطلق عليه فيما بعد أنه مؤسس فرقة (الصفرية).

ويرى بعض الباحثين - وأنا أتفق معهم - أن الغموض يلفّ مؤسسي بعض الفرق الفرعية، وكأنه إحدى أمرين:
- إما تشنيعاً عليهم ﻹضعافهم.
- وإما مبالغة  في خطرهم.
وقد ذكرتُ سلفاً أن غياب المعلومات عن بعض الشخصيات لَهُوَ من الأمور التي نحتاج إلى أن نتعرف على خبايا الفرق الرئيسية والفرعية؛ لنستطيع الحصول على معلومات تخدم البحث من جميع النواحي.



ذكرتُ في البداية أن الشهرستاني لم يلتزم بضوابطه، ومن ذلك أنه يستخدم صيغة المبني للمجهول في حديثه، مثل:
ويُقال: إن أول سيف سُل من سيوف الخوارج سيف عروة بن حدير.!!!
وقال عن الحازمية: ويحكى عنهم أنهم ...الخ.

فكلمة (يُقال) و (يُحكى) خارجة عن الضابطة العلمية التي وضعها في خطبة كتابه، ولا تفيد العلم، ثم إني ذكرتُ في مشاركات سابقة، ما قيمة الأشخاص العلمية والمذكورين في هذا القسم (الخوارج)؟! فهو لم يذكر أحداً بقيمته العلمية سوى عمران بن حطّان، حيث قال عنه: مفتي الخوارج وزاهدها وشاعرها الأكبر.
أما البقية فلم يذكر لنا عنهم شيئاً سوى الاسم الثلاثي أو الرباعي فقط!!!

من ضوابطه المذكورة في خطبة الكتاب أنه قال:
- وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما جدته في كتبهم، من غير تعصب لهم، ولا كسرٍ عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده، وأعيّن حقه من باطله ...الخ.

وهذا مع شديد الأسف لم يلتزم به، حيث يسردُ أقوالاً تلو الأقوال دون توثيق معلومة إلى كتب الخوارج أو من عاصرهم.
نعم، ذكر عبارة واحدة أوعزها إلى مصدر وهي قوله: ذكر الحسين الكرابيسي في كتابه الذي حكى فيه مقالات الخوارج.
سؤال: من يكون هذا الحسين الكرابيسي؟ ومتى عاش؟ ومن يكون هذا؟
فقد بحثت في كتب التراجم فاشتبهت علي الأسماء، وما اشتبه عليّ اسمه لم أجد له كتاباً في هذا الصدد؟
ولا أظنّه من الخوارج، فلو كان من الخوارج لذكر اسمه ضمن أيّ فرقةٍ من هذه الفرق، إلا أن الكرابيسي لم يرد اسمه إلا مرة واحدة فقط وهي العبارة التي ذكرتها سلفاً.


عدد المنتمين إلى فرق الخوارج:
قال الشهرستاني: وما وجدتُ لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمّة كيف اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر.

وهذه من المسائل التي وقع فيها، فقد نقل كما نقل غيره، ولم يأتِ بجديد، حيث يسرد الأسماء دون توضيح معلومات ذات أهمية بالفرقة الأم أو الأساس.

نعم، ذكر بعض المعلومات في بعض أسماء الفرق، مما يشير أن هناك فرقة لها كيانها وقوّتها، كقوله عن الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق أنه كان معه زهاء ثلاثون ألف فارس.

وقال عن نجدة بن عامر الحنفي، أنه سيّر مع ابنه جيشاً إلى أهل القطيف فقتلوا رجالهم وسبوا نساءهم.

هذه المعلومات تشير إلى كيان بشري له وجوده على الساحة، أما تعداد الانشقاقات فليس لها قيمة وإن ذكر أسماءها وأقوالها، فما يدرينا أن ذلك رأي تفرّد به صاحبه والتحق به جماعة قليلة!! وهذا هو الحاصل، أن ما يجري هو انشقاق ضمن انشقاق ضمن انشقاق، ولذا لا تقوم لهذه الجماعة قائمة وهم في هذا العدد اليسير.


الخارجي: شبيب الشيباني

من المشتهر عن الخوارج أنهم أصحاب إقدام في في الحرب، باعتبار أن الحروب المسلحة التي خاضوها من أجل الدين، وفي قناعتي منذ زمن أن الحروب الدينية تُعد من أعتى الحروب وأشدّها ضراوة.

يخصص الباحث: هادي العلوي في كتابه (شخصيات غير قلقة في الإسﻻم) صفحاتٍ عن شبيب الشيباني، ويراه من العظماء الذين حُبسوا في زوايا معتمة من التاريخ، فلوﻻ سقوطه من على صهوة فرسه في النهر وثقل الدرع عليه لما استطاع الأمويون القضاء عليه.

فمن شجاعته أنه أراد أن يفي نذراً ﻷمه أن تصلّي في مسجد الكوفة وتقرأ سورة البقرة بكاملها، والكوفة وﻻية أموية، فما كان منه إلا أن اقتحم الكوفة بوجود الحجّاج بن يوسف الثقفي فيها، ولم يستطع الحجّاج مواجهة شبيب رغم قلّة عدد من كان معه، فصلّت أم شبيب في مسجد الكوفة وشبيب وجماعته يحرسونها.

ثم يقارن بين شبيب الشيباني والحسين بن علي (ع)، حيث يرى أنهما رغم بطولتهما من حيث: اصطحاب النساء في حركتهما مع اختﻻف المؤدّى، إلا أن العلوي يرى شبيباً أفضل من الحسين في تخطيطاته العسكرية، سوى أن شبيباً سقط في النهر وغرق، والحسين برز اسمه حيث مقتله وسبي نسائه في الكوفة والشام نخرا في جسد الأمويين مما ساهم في انتقال السلطة من السفيانيين إلى المروانيين، وهذا ما ساعد في انتشال الأمويين للثارات التي أتت بعد مقتل الحسين (ع).

ثم يركّز العَلَوي على أن الخوارج يصطحبون نساءهم لأجل القتال، في حين أن الحسين اصطحب اخته زينب، والتي يرى أن مواقفها السياسية بعد واقعة كربﻻء ضمن الخطّة التي رسمها الحسين (ع).