التـقـــــــليــد
بين التراث و الحداثة
بين التراث و الحداثة
المشــــاركون:
محاولة التفكير في التقليد من خارج الصندوقين
حيدر موسى
علامات على الطريق، ليس إلا
مهدي الرمضان
ما بين التقليد والنظر
طارق النزر
وهم آخر اسمه المرجعية والتقليد
علي النحوي
"الجذور التاريخية للمرجعية"
كاظم الخليفة
التقليد في مواجهة العقل
علي الحمد
المراجع والتقليد والعوام
المراجع والتقليد والعوام
عبدالله بوخمسين
مسائل خلافيه بين المراجع
عبدالله بوخمسين
عبدالله بوخمسين
محاولة التفكير في التقليد من خارج الصندوقين
حيدر موسى
هناك توتر شديد ينتاب
اي طائفة عند محاولة الاقتراب من بعض التوابيت التي تعتقد انها يجب ان تظل مغلقة.
ولنكن صريحين أكثر فان هذا النوع من التوتر له ما يبرره وهو ديدن سلوك كل
الايدولوجيات والانساق الفكرية حيث تعتريها رهبة المساس بنسقها وطابعها الخاص
والذي يعطيها صفة التميز والتفرد وربما صفة امتلاك الحقيقة الالهية عن بقية
الانساق الدينية والانسانية.
جزء من اشكالية
المدافعين عن ثبات التقليد الفقهي تكمن في انهم يتجاهلون السياقات التاريخية من
وراء نشوئه وتبلوره وتطوره بالشكل الذي نراه عليه الان. هذا التطور في التقليد من
المفترض انه يوصلك الى نتيجة لا مناص منها وهو ان التقليد ليس جزء ثابت واصيل في
الدين او المذهب بحيث يجب الجمود والتوقف عند حافته. وانما التقليد حركة فقهية
التجأت اليها الطائفة لمعالجة ثغرة تنظيمية سببها غياب الامام الشرعي لها والذي
كانت منه تؤخذ الاحكام وبأمرته تجمع وتوزع الاخماس وتدار شئون الطائفة. هذا الفراغ
الكبير من المنطقي والطبيعي ان يكون له ما يسده وهذا ما عمل عليه الرعيل الفقهي
الاول من الشيعة على صياغته وبلورته بحيث حالفه العديد من التتغييرات والمناوشات
الفقهية مع الزمن وتوقف مرارا عند بعض الجدليات مثل اشكالية تقليد الميت، الى
جدلية العدالة والاعلمية، الى ان وصل الى وراثة المرجعية والتوسع في صلاحيته
الدنيويه وزيادة التوغل في مركزية الفقيه في عصر تتنامى فيها المؤسساتيه.
لا يمكننا بحال من
الاحوال انكار دور التقليد ضمن سياقاته التاريخية، ولا يمكننا اليوم تجاهل سلبياته
حيث الناظر مثلا بعمق الى الواقع الشيعي يجده ماهو الا عبارة عن كنتونات صغيرة
متنافرة ومتشربة النفسيات والامزجة كل حزب بما لديهم فرحون.
من جانب اخر لو تفكرنا
بالطائفة الشيعية كونها كبقية الطوائف والديانات التي لها شأنها ومزاجها الخاص.
سنجد ان التقليد يدخل ضمن دائرة الفلوكور المميز للطائفة، تماما مثل المجمع المغلق
الذي يتم من خلاله انتخاب بابا الكاثوليك الجديد. ومن هنا فان طموح المتنورين
الكبير في اصلاح ومعالجة امور المرجعية والتقليد واعطائها الصبغة العصرية سيظل
مجرد حلم لا يمكن بحال من الاحوال تطبيقه على انساق وطوائف دينية تقيدها وتحاصرها
الكثير من التعقيدات والرتابة والهواجس والكثير الكثير. باختصار الطائفة الشيعية
في طقوسها وممارساتها وتنظيماتها الداخلية هي هي ذاتها الطائفة السنية
والكاثوليكية والهندوسية وغيرهم كلما تطاولت سيقانها واوراقها اكبر في عمق الحاضر
كلما احتاجت ان تتتوغلت بجذورها اكثر الى عمق التاريخ.
علامات على الطريق، ليس إلا
مهدي الرمضان
ماذا لو ازيلت كل خرائط
الطرق وجميع لوحات المرور الارشادية من على الشوارع و الممرات الكبيرة و الصغيرة
وسحبت كل كتب الخرائط من المكتبات ومحيت انظمة الملاحة من اجهزة الحاسوب والهواتف
الدكية و توقفت كل الاقمار الصناعية عن ارشاد حركة المركبات.؟
ماذا لو خلت شوارع
الارض من كل دليل يدل على وجهة ويرشد لمنتهي طريق ومآل مسير؟
ماذا لو ازيلت اسماء
الشوارع وارقام وعناوين المساكن؟
ماذا يمكن ان نتصور
يحدث عندها؟
لن تتوقف الحركة تماما
ولن تضيع كل المعالم فمن يعرف طريق مزرعته و مكتبه و مدرسته و مصنعه سيواصل رحلاته
اليومية بدون حاجة لأي دليل معتمدا على قدراته وقوة عقله وذاكرته.
وعدى عن ذلك ستصاب
الحياة و الحركة بالشلل فلا يمكن ان تستمر الحياة طبيعية بلا علامات على الطرق
وخرائط تحدد وتعين المعالم.
يبقى هنالك من يظن ان
عقله الفذ - وكل العقول السليمة فذه- بما اوتي من قدرات عظيمة وما يمتلكه من طاقات
ضخمة كاف ليرشده لمساره الصحيح إينما يريد من مقصد.
ليس قصورا في قدرات
العقل و إمكانياته ولكن العقل يحتاج ليقيس صحة توجهه و سلامة مساره ببساطة للوحات
ارشادية على طول الطريق الغير معهود.!!!
وذلك في ظني ما يقدمه
لنا المراجع من نتائج بحثهم وتبحرهم في التشريعات والاحكام المجملة
ليستنبطوا منها "ارشادات" وعلامات طريق يفترضها بعد معاناة ومجاهدة في
تحصيلها واقتناعه هو ذاتيا بسلامتها إنها صالحة لإرشاد السائرين على طريق الإيمان
و بأنها موصلة ومبرئة للذمة.
برسم المرجع
للوحات وخرائط طرق ليسهل على المسترشدين بها (المقلدين)، عندها تنتهي مهمته فليس
من صلاحياته ان يجبر أحدا على قبولها فتلك الصلاحية لم تُمنٓح
للأنبياء والمرسلين ناهيك عنه.
هنا لابد اولا من
التوضيح بأن منظومة الفقه الإسلامي والتفسير للتشريعات والاحكام هي فهم بشري يخضع
لمتغيرات الزمان والظروف البيئية والاجتماعية لكل عصر من العصور وذلك مصداقا
لمفهوم " أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان"
وثانيا، أن المستهدف
بنتاج الفقه والتفاسير هم مجاميع المؤمنين القابلين اساسا للدين وتشريعاته
والمطالبين "بإرشادات" تساعدهم على سلوك الطريق الذي يوصلهم لمقاصدم
بأقل قدر من المخاطر من الضياع و التيه.
ثالثا، اظن ان مفردة
"تقليد" بما قد تسببه من حساسية ونفور لدى مثقفي وحداثيي العصر في وقتنا
الراهن مردٌها لحمل شحنة عاطفية ضخمة حيث يكون مفهوم الابتكار و الاصالة المضاد
ممدوح و يشير كدلالة للتطور و الرقي و الابداع الذي يستهوي الحداثي التناغم معها
كمفاهيم وقيم و "التقليد" في المقابل يحمل في طياته ملامح الجمود
والتكرار وتناقل ما سبق من آراء و الاستنساخ للافكار ويدفع المتلقي المثقف الحداثي
لمفهوم يرتبط لديه ذهنيا بالتخلف. فأحدهم يصرح قائلا: " تكريس فكرة
التقليد كعقيدة ومطلب أساسي للتعبد، لا يخلو من التجهيل وتسطيح العقول أو
مصادرتها، فأنت كشخص مستقل ملزوم بتقليد عقل شخص آخر يأمرك باسم الله"
ومثقف آخر يقول: "
التقليد، ساهم في انتشار التعبد القشري، المصلحي، الساعي إلى جر الإنسان نحو
الدفاع عن الهوية الفقهية التشريعية التاريخية، وفشل في جعله انسانا مدافعا عن
القيم الأخلاقية، التي هي اﻵن قيم العصر الحديث.."
أظن ان اشكالية الرفض
والنفور النفسي التي تواجه البعض عند استخدام مفردة " التقليد" قد تكون
مفهومة ولها ما يبررها.
وربما لو استخدم احد
مرادفات مفردة "تقليد" التالية:
إِحْتِذاءٌ ,
إِقْتداءٌ بـ , حَذْو ,مُحَاكاة ,مُمَاثَلَة.
ربما لخفت الوطأة على
الحداثيين ولتقبلوا المفهوم الفقهي وعدوه ليس إلا علامة طريق ترشد السالكين للوجهة
الاقل خطورة و الاكثر سلامة للوصول للمقاصدهم بسلام.
ومع ما يفترض بأن الفقه
هو النافذة - إذا جاز التعبير-التي من خلالها تطل التشريعات والأحكام الدينية على
المكلفين من المؤمنين بعد ان يحولها المرجع بآلياته و أساليبه العلمية
والاجتهادية لصيغ اقرب لأن تكون إجراءات على هيئة إفعل / ولا تفعل.
كان الناس سابقا ولحد
كبير لا يزال كثيرون يتقبلون تلقائيا من المرجع الذي هم "يسترشدون"
بمخرجاته الفقهية تلك الإجراءات ويطبقونها براحة ضمير و قناعة تامة بانها مبرئة
لذممهم كواجبات او محضورات.
ولكن بدأت حاليا تتغير
الصورة وإن بتأودة و ببطء قد لا يشعر به المراجع في أن نسبة متنامية من الشباب
تطالب ان تكون المرجعية مؤسسة متكاملة الجوانب والتخصصات تبنى على نمط إداري حديث
لتواكب متغيرات العصر وبها قنوات التواصل مفتوحة وذات إتجهاين مع من يسترشدون
بفتاوى المراجع. لا تزال المرحعية تخضع لنظام تقليدي قديم وجل المراجع هم فقهاء
أفراد لا يطلون على الناس بشخوصهم إلا بطريق غير مباشر من خلال مكاتبهم علما ان
قنوات التواصل اصبحت متاحة فهم لا يتحدثون للجمهور مباشرة ليكون الناس لديهم إطلاع
على مستوياتهم الفكرية و ليس فقط على قدراتهم وملكاتهم الفقهية.
التواصل هو لغة العصر
لتقوية الروابط وتفعيل العلاقات العامة وهي كما اظن ما ينقص حوزاتنا لتكسب عقول
وقلوب شبابنا.
ما بين التقليد والنظر
طارق النزر
(١)
في
حديثنا وانتقادنا للتقليد في هذا المقال، فإن المقصود به هو الإلتزام الوجوبي
بالتعبد لله برأي الغير وظنونه، فأيا كان المصطلح الذي يصب في هذا المجال سيكون
محل نقد، فليس هناك حساسية نفسية من المصطلح، بل هو رفض لهذا المفهوم ولهذه
الطريقة بالتعبد..
ومعلوم أن هناك عدة
تعاريف بين الفقهاء لمعنى التقليد، ولكن جميعها وكما قال السيد محسن الحكيم مراد
العلماء منها هو العمل بقول الغير.
والتقليد بصورته
الحالية يعتبر متأخرا ودخيلا على المجتمع الإسلامي، فيبدو واضحا أن التقليد باتباع
أو العمل بآراء أصحاب الإجتهاد والظن والتعبد بها دون تمحيص أو البحث عن الدليل لم
يحدث بصورة واعية إلا بعد وقت متأخر من تكون المجتمعات الإسلامية..
وهذا ما يفسر نشوء
اتجاه فقهي بين القدماء يحرم التقليد ولا يجيزه، بعكس ما نجده اليوم من علماء
متأخرين يرون حليته بشكل قد يصل إلى الإجماع، ولم يعد للرأي القائل بتحريمه وجود،
بل قد يهاجم من يحرم التقليد نظرا لما أخذه من مكانة بين الفقهاء وتكريسه بين
العامة وتقديسه حتى صار بعضهم يدافع عنه وعن ركائزه أكثر من الفقهاء أنفسهم! وإن
جانب الصواب في ذلك..
وقد تطرق الشهيد الأول
شمس الدين العاملي في كتابه (الذكرى) أن تحريم التقليد كان اعتقاد بعض الأصحاب
والفقهاء آنذاك، ووافقهم على ذلك جماعة من الإخبارية، لاسيما المؤسس محمد أمين
الإسترابادي، وأيده آخرون مثل الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة..
وحتى في آية (اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) التوبة/٣١، الوارد في التفاسير والمنقول من
الأحاديث، أنهم لم يعبدوهم بمعنى العبادة، وانما كانوا يحللون ما يحللونه لهم
ويحرمون ما يحرمونه لهم دون تمحيص ومساءلة، مقلدين لهم ومتعبدين لربهم من خلال تلك
الأحكام، وليس واقعنا الفقهي والديني ببعيد!
أما من يرى حليته فهو
عادة لا يتبع دليل شرعي من القرآن أو الحديث، نظرا لغياب دليل واضح يصب في هذا
الإتجاه، بل يتبع طريقة البناء العقلي في إثبات صحته وحليته، ولن أستغرق كثيرا في
أدلتهم الشرعية الضعيفة، لكني أشير إلى أبرزها وهي آية الإنذار في سورة التوبة :
(وماكان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) 122، واختصر التعليق على ذلك
الآخوند الخراساني في (الكفاية) بأن ليس لهذه الآية أي دليل على جواز التقليد، وأن
المرجح بها أن يكون الإرجاع لتحصيل العلم، وليس التعبد بالتقليد واتباع الظن،
وكذلك هذا رأيه في آية الذكر أو السؤال التي لم يعول عليها الكثير من العلماء
القائلين بجواز التقليد، لذلك كان يرى الآخوند الخراساني أن أي دليل غير بناء
العقلاء وسيرتهم على جواز التقليد فهو قابل للمناقشة..
(٢)
شخصيا أجد التقليد قيمة
سلبية نغرسها في مجتماعتنا، فعلاقتنا مع الله لا تحتاج رجال، ورضا الله ورحمته
أسهل مما يحاول أهل الفقه والدين تصويرها، وكنت أتمنى لو أن الرأي القائل بحرمة
التقليد هو السائد وليس العكس، واللافت بالأمر هو لجوء المدافعين عن التقليد للمقارنة
بينه وبين الأطباء أو المهندسين، وهي مقارنة مع الفارق، فليس هذا كذاك، اللجوء
للمهندس في بناء المنزل هو اتباع لعلمه وطريقته التي يمكن التحقق من نتائجها،
بينما التعبد بالتقليد هو العمل بالرأي والظن مع الوجوب في ذلك، وليس العلم كالظن!
كما أنه لا يمكن التحقق من هذه الظنون وذلك الفهم للدين..
فهذا الخلط بين اتباع
العلم ووجوب التعبد بتقليد الظن، مشكلة يقع بها حتى بعض المعممين والمحسوبين على
الحقل الفقهي، بينما لانجد هذا الخلط وبتلك الصورة منتشرا بين كبار المفكرين
الفقهاء وإن كانوا يجيزون التقليد والتعبد بظن الغير..
قد يتساءل البعض ما
البديل عن التقليد؟ وواقعا البديل موجود وهو بادئ بفرض نفسه على جميع المستويات،
وليس المعتقدات والدين باستثناء، ألا وهو "النظر" عوضا عن التقليد،
والمعني بنظر المكلف من خارج دائرة الإختصاص في الأدلة والبراهين، وترجيح بعضها أو
الإقتناع به، أو عدم الإقتناع، وذلك حسب مايمليه عليه عقله ووجدانه، والنظر له
أدلته الشرعية والمنطقية والعقلائية، وهو مبحث يستحق الإهتمام والبروز، وهو متوافق
من الناحية الإسلامية مع الآية القرآنية : (..فبشر عباد * الذين يستمعون القول
فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) الزمر/١٨، فقد
اعتبر ابن حزم أن الآية تشير إلى مدح من لم يقلد، وقد يتسع النظر اليوم ولا يكون
محصورا بين آراء المذهب الواحد أو الدين الواحد، والنظر يكسب أهمية بالغة عند أهل
الإعتزال، بينما غيبه الفقه الشيعي وحصر المكلف بين ثلاث: اما تقليد أو احتياط أو
اجتهاد، ونظرا لصعوبة الاحتياط وما يتطلبه الإجتهاد من وقت، فإن غالب العامة هم من
المقلدين، دون مراعاة لمستوى الوعي الآخذ بالإزدياد، فلم يعد العوام كالسابق،
فالثقافة اتسعت على جميع المستويات، بل أن حتى الغير مسلم بإمكانه أن يتمتع بثقافة
اسلامية جيدة لا سيما إن كان يعيش في بيئة اسلامية، قادرا من خلالها على التمييز
المناسب، كما أن المعرفة اتسعت والعقول باتت تفكر وتتوق للتحرر من سلطة التقليد
ووجوبه..
أؤمن بالله، وأؤمن أنه
سيحاسبني على عقلي ووقتي وقدرتي، وسأكون معذورا في خطئي وقصوري فيما لو حصل، تماما
كما يعتقد المجتهد نفسه معذورا فيما لو أخطأ، فكون هناك من هو أعلم مني أو أعقل أو
أوسع مني بحثا، لا يعني أنه حجة علي أو سيحاسبني الله بناء على علمه أو عقله
وبحثه، وإلا لكان العاقل حجة على المجنون!
وهم آخر اسمه المرجعية والتقليد
علي النحوي
(1)
في عنوان مقالي أقدم
مسالة التقليد بكل تجلياتها بصفتها وهما ووليدا شرعيا وطبعيا لوهم آخر ، وكلا
الوهمين كان عبارة عن حل لأزمة وقعت فبها الفرقة الإثني عشرية خاصة.
إن فكرة التقليد
والمرجعية مع الاستدلال التلفيقي عليها من عصر الإمام العسكري إلا إنه لم يعمل به
إلا قبل أقل من مئتي سنة ، أي مع ظهور اول رسالة عملية كما تسمى في الحوزات
العلمية .
قبل الخوض في إشكالية
المفهوم وفجائعية الأزمة لابد أن أشير أن لامشكلة لدينا مع الفقيه ، بل وجوده
ضرورة ، بشرط أن لايتجاوز دائرة اشتغالاته التي تتعلق بالفقه ، أما أن يتحول إلى
ولي ووصي وتتسع صلاحياته وصلاحيات مؤسسته إلى حد إعطائه الصلاحيات المطلقة في
تقرير مصائر الناس ووضعهم في مسارات خاصة فإنه سيتحول إلى ماحذر القرأن الكريم منه
في اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا ، والأنكى من ذلك أن تتسع دائرة سماحته ليتحول
بقدرة قادر إلى سياسي وفلكي وطبيب وعالم اجتماع ويبدأ يذرع طولا وعرضا وكانه بزاز
يتعامل مع قماش ، ومن هنا تبدأ الأزمة.
مفهوم التقليد خاص
بالفرقة الإثني عشرية ، وهذه الخصوصية تجعله محل المساءلة والتعجب ، المساءلة في
جذور ودوافع هذه الفكرة المبتكرة التي لا تمت إلى الإسلام بصلة في دائرتها الكبرى
أي إذا استثنينا دائرة الفقيه المحدودة ، والتعجب من توسع صلاحيات ما يسمى
بالمقلَّد أو المرجع ومؤسسته ، وكلنا يعلم حكايات الأموال التي هدرت ومازالت تهدر
تحت هذا العنوان وحسبك أن تلقي نظرة على شارع الوجيهين في قلب لندن لتتعرف على عمق
المأساة ، أو تقف عند مصطلح ولاية الفقيه لتعرف خطورة تضخم مصطلح المرجعية
وتمددها.
قبيل وفاة الإمام
العسكري كان لابد من ابتكار فكرة تضمن استمرار النظرية الإثني عشرية التي تشترط في
كل إمام أن يكون ابنا لإمام سابق ، وسأتجاوز هنا عن كونه الابن الأكبر لملابسات
تاريخية سبق نقاشها ، كما سأتجاوز عن فكرة إمامة الطفل مع إن مايسمى بالمرجعية
التي هي أقل شأنا من الإمامة يشترط فيها البلوغ ، وسأتجاوز مرويات الكليني في كون
الأئمة ثلاثة عشر وهو معاصر الإمام الغائب !
سأتجاوز كل ذلك إلى
فكرة السفراء الأربعة الذين كان كل واحد منهم يسد منصب الإمام بطريقة أو أخرى ، مع
زعم أكثر من عشرين فقيها إماميا أنه نائب عن الغائب عج ، ثم انقطاع الفكرة إلى
فقهاء كان لهم حضورهم كالمفيد والطوسي والصدوق ، مع زعم بعض أتباع المدرسة الإثني
عشرية أن هولاء يتصلون بالغائب ليتلقون منه المدد الفقهي ، وهذا الزعم أصلا يجعلنا
مطمئنين إلى صواب الفتوى الفقهية أو العقدية ، لأنها خاضعة لرعاية إلهية ، ومع ذلك
نجد اليوم من يسخر أو يبطل آراء هؤلاء .
ثم مع طول فترة الغياب
وحاجة الفرقة الإثني عشرية إلى مايسد نقص فكرة الإمامة نجدهم يبتكرون فكرة جديدة
وهي التقليد ويطورونها شيئا فشيئا ليستولدوا إماما ولكن تحت مسمى جديد " مرجع
" ويجعلون له جميع صلاحيات الإمام ، بخاصة بعد الثورة الإيرانية التي وسعت
صلاحياته.
إذن جاءت فكرة المرجعية
لسد فراغ في الفرقة الإثني عشرية وذلك ما لا نجده في الفرق الأخرى التي لاتقول
بأهمية وجود إمام في كل عصر ، او من ترى وجوده كالنزارية الإسماعيلية .
إن هذه الإشكالية تجعل
الإثني عشرية ليسوا بحاجة لفقيه يفتي في الحلال والحرام ، بل تجعلهم بحاجة لمفهوم
اوسع بكثير من الفقيه ، حيث سيسد محلا ضخما ، أي سيمارس ولاية ووصاية خاصة تتصل
بأعراض الناس وأموالهم ومصيرهم ، ثم سيدير الصراع مع الفرق الأخرى التي تتنازع على
الحقيقة والوجود وعلى امتلاك مفاتيح الجنة.
لعل فراءة كهذه تجعلنا
قادرين على تفكيك الفكرة وقراءتها من العمق المذهبي الطائفي ، لتصبح ضرورة مذهبية
طائفية اكثر منها حاجة دينية إلهية .
(2)
في الحلقة الأولى من
الوهم تبين للقاريء الكريم كيف كانت فكرة المرجعية لدى فرقتنا الإثني عشرية فخذ
المذهب الشيعي عبارة عن سد فراغ في النظرية العامة للفرقة إثر أزمة كادت تعصف بهذه
الفرقة لتوضع في خانة النسيان كبقية الفرق الشيعية التي ذكرها جعفر سبحاني في كتابه
فرق الشيعة التي فاقت السبعين فرقة ، فعصف بها عدم قدرة مريديها على ابتكار طرق
تضمن ديمومتها ، وفلت من هذا القدر عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من فرق
الشيعة ، وكل فرقة ابتكرت حيلة أو وسيلة لبقائها حاملة شعار تمثّلها للحقيقة دون
سواها وكانت الإسماعيلية النزارية أوفقها إقناعا لأبنائها ، حيث إنها مازالت تلتف
حول إمام حي حاضر من نسل آل محمد إلى يومنا هذا ، أما الفرقة الإثنى عشرية فنظرا
لأن حيلتها أو وسيلتها التي استحدثتها إثر أهمية سد الفراغ بعد الإمام العسكري ،
وتورطها بروايات أثبتها ثقتها الكليني في كافيه التي تؤكد أن الأئمة ثلاثة عشر ،
وهنا لايمكن دفع ما أثبته الكليني بحجة ضعف الرواية أو سواه ، لأن رد مثل هذه
الروايات سترمي رجلا عملاقا كالكليني بالحمق أو الجهل في معرفة عدد الأئمة ، إذ
مجرد معرفته بعددهم يجعله رافضا بشدة لوضع هذه الروايات في كافيه مهما كان مستواها
الروائي ، ولا مبرر لذلك أبدا ، ومن هنا تتفجر أزمة حقيقية ، يعمل عدد من دهاة
الفرقة على صياغة مشروع لتدارك مايمكن تداركه ، فيصوغوا نظرية الغائب عج بغيبته
الصغرى وسفرائه الأربعة ، حتى إذا انفجرت الأسئلة وكثر مدّعو السفارة من رجال
الفرقة الكبار ، كان لابد من مرحلة ثانية تمثلت فيما سمي بالغيبة الكبرى ، وهنا
تفجرت أزمة جديدة ، لم يكن هناك من حيلة لتلافي علامات استفهامها سوى إدعاء أن
الفقهاء الذين مثلوا الفرقة على تواصل مع الغائب عج ، ثم إن طول الفترة وتداخل
السياسي بالديني وسيطرة الفرقة الإسماعيلية عبر دولتيها الفاطمية والقرمطية على
أغلب بقاع الدولة الإسلامية وحضورها كممثل أعلى للتشيع ، ثم سقوطهما وسقوط
الدويلات الشيعية الأخرى ، ودخول الاستعمار على الخط ، كان لابد من ابتكار وسائل
جديدة للحفاظ على الخط ، ومن هنا كانت فكرة المرجعية ، التي حاول مبتكروها أن يجعلوا
للإثني عشرية مرجعا أعلى عبر مفهوم الأعلمية ليسد مكان الإمام ، لكن سرعان ما
انهارت هذه المرجعية العليا ومفهوم الأعلمية ، من خلال تعدد المرجعيات التي نظرت
بعين أو أخرى للأموال الطائلة التي كانت تتدفق إلى العراق وإيران من بلدان الخليج
النفطية ، والتي تمثل ضريبة الخمس ، ولذا وضع كل مرجع له مجموعة وكلاء خصّهم بنسبة
تتراوح من خمسة عشر إلى خمسة وعشرين بالمئة مما يحصّله من أموال الخمس ، وهكذا
تفجر صراعان : صراع بين المراجع وآخر بين الوكلاء ، وللقاريء الكريم أن يلقي نظرة
على صراع وكلاء المراجع في محافظة كالأحساء ليعرف حجم الفجيعة والمأساة ، وهذا ما
سأخصه بعدد من المقالات فيما سيأتي لأهميته ، ما بين ذلك كله تكوّنت عقلية شيعية
إثني عشرية مشتتة وتابعة ، بل متعبدة في تبعيتها لله كما تظن ، وانشغلت هذه
العقلية بالانغماس بالفقهي والعقدي وطاردت التفاصيل وتفاصيل التفاصيل كما فعل بنو
إسرائيل مع بقرتهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون ، وفي خضّم ذلك عاشوا بين دول
تكونت سياسيا وأسست تشيعا طقوسيا كما هو عند الصفويين ، وبين فقهاء يحرّمون تكوين
دولة شيعية في عصر الغيبة ليحرموا أتباعهم من فرص سياسية مهمة ويضعوا رقابهم بين
السيف والمقصلة بعد الدويلات الشيعية المنهارة ، حتى إذا جاء الخميني المغضوب عليه
حينها من حوزة النجف والمتهم بأنه تابع للإتحاد السوفيتي واخترق فكرة حرمة قيام
دولة في عصر الغيبة ، دخل الإثنى عشريون على ضوء ذلك في تحوّل وصراع جديدين ،
يتمثل في فقهاء معارضين للتحول الجديد ، وصراع آخر يتمثل في مواجهة التيار الديني
السني في الخليج بالذات ، كل ذلك بدأ يغير خارطة ما كان ، ولست أدري كيف يفكر من
هم في منطقة التأثير تحسبا للآتي ، غير إن الجديد في هذا التحول إن العصر
بكل تجلياته وتقنياته بدأ يقول كلمته ويستخدم أدواته الحديثه في تفكيك الحالة
المذهبية وفهمها ، وهنا تقوم قيامة التيارات المتصارعة ، ويشغلها عن صد حالة الوعي
التي بدأت تتفتق براعمها انشغالها بذاتها .
مع هذا التحوّل ينقسم أتباع الفرقة الإثني عشرية خاصة إلى فريقين :
فريق سلفي متشدد يرى في المرجعية ووكلائها امتدادا للسماء وفي مالديه من إرث روائي
أداة
للحفاظ على استمرارية
الفرقة الإثني عشرية التي يرونها ممثلة للسماء ، وفريق آخر مجدد واع يرى أهمية
مراجعة مالديه ومساءلته حتى لو أدى ذلك إلى نتائج صادم أو أغضب سلفي الفرقة ، ثم
إنه يرى في هذه الفرقة كسواها من الفرق الإسلامية التي تولدت إثر صراعات سياسية
ودينية ، وتوزعت ومازالت تتقسم حسب مصالح أتباعها وأنها لا تمثل السماء إلا بقدر
صلاح بعض أتباعها الصالحين الصادقين .
أزمة المرجعية إذن
تتمثل في هشاشة العقل الذي صنعته ، وفي عدم قدرتها على لملمة أشلائها بعد أن وقع
بعض مراجعها في خطأ تاريخي بإصدار فتاوى تضليل وتفسيق بحق منافسيهم من المراجع
الآخرين ، واليوم يقفون في حيرة أمام طوفان ألوعي المتفجر لدى أبنائهم ، حتى إنهم
لم يصادقوا على تهوّر بعض وكلائهم في إصدار أحكام على بعض المثقفين المؤسسين
تأسيسا دينيا وأكاديميا في نقدهم للحالة المذهبية والطائفية .
ونظرا لتحوّل تيار
المثقفين الجدد الآتين من عمق طائفتهم لواقع بدأ بعض المراجع والوكلاء والمشائخ
يتبنونه خيارا لهم ، تنبّـأ منهم أن هناك خارطة جديدة تتشكل ستغير عبر الزمن كل
شيء ، وهذا ما أصبح يمثل واقعا يفرض ذاته ويبشر بطلائع حالة انعتاق من هيمنة
المؤسسة الدينية على العقل الشيعي الإثني عشري الذي ضاق ذرعا بواقعه المأزوم ومضى
يكسر جميع الحواجز التي تحجبه عن الآخر وعن العالم ، وتحرره من كونه مجرد تابع
عامي يخضع لولاية ووصاية تتمثل في المرجع الذي لم يعد واحدا بل أصبح بعدد فرق
الشيعة عبر التاريخ ، وكان ما كان مما سيذكره التاريخ جيدا !!
"الجذور التاريخية للمرجعية"
كاظم الخليفة
[١]
عندما قاربنا المرجعية
من زاوية السلطة الروحية وارتباط الفرد الشيعي بها، فنحن هنا نسائل الثقافة التي
جعلت من ذلك الخضوع الاختياري "حتميا" في ظل وجود تاريخي لأنساق أخرى من
السلطة التي نفترضها كمرجعية تاريخية يستقي منها "المرجع" حضوره من خلال
الدين في المجتمع وهي: مفهوم داعي الدعاة في الفكر الشيعي الإسماعيلي، و الولاية
الصوفية، والنيابة عن الامام الغائب في الفكر الإثني عشري الشيعي. فمن خلال هذه
النماذج نحاول أن نفكك خطابات السلطة الروحية ومرجعيتها الثقافية.
١- داعي الدعاة:
بعد انشطار الخط
الحسيني مرة أخرى ،
بعد وفاة الإمام الصادق
عليه السلام،(الأولى كانت في افتراق الزيدية)، وانقسامه إلى الموسوية
والإسماعيلية، مارس الامام الكاظم دوره المعارض العلني الحذر، بينما أتخذ الخط
الآخر الإسماعيلي من العمل السري منهاجا صارماً لنضاله السياسي واستدعى ذلك بطبيعة
الحال أن يربط قاعدته الشعبية بممثلين عن تياره ويزكيهم ويمنحهم الصلاحيات الكبيرة
التي تفترض الطاعة التامة، وكان من شروط ذلك إلمام تلك الشخصية بالمهارتين الدينية
والوعي السياسي. في تلك المرحلة برز مصطلح داعي الدعاة والذي أخذ يناضل بقوة حتى
اصبح علامة فارقة في الشخصيات الاسلامية المؤثرة منذ القرن الثاني الهجري إلى الآن
مع الأخذ بالاعتبار الانزياحات التي مر بها هذا اللقب حتى أصبح حالياً في مرحلة
الكمون السياسي ويعبر فقط عن المرجعية الدينية، كما هو حاصل الآن لدى الفرقتين
الاسماعيليتين النزارية والسلمانية.
عندما كان داعي الدعاة
يدعي تمثيله للتيار الإسماعيلي في مساجلاته الفكرية وحواره مع أبناء عمومته
"التيار الإثني عشري"، كان أقطاب الفكر الأمامي يتحركون من واقع التفويض
الشعبي الممنوح لهم باعتبارهم رموز وكفاءات دينية ليس إلا، بينما الداعي
الإسماعيلي يمنح التفويض من الإمام المستتر مباشرة. يمدنا التاريخ بشواهد عديدة
لتجاور الداعي الإسماعيلي كحميد الدين الكرماني، مثلاً، مع الشيخ المفيد وسجالهم
الفكري؛ الأول كان مفوضاً بشكل صريح من قبل الإمام المستتر، والآخر كان لديه تفويض
شعبي ضمني.
المثير حقاً، هو
أنه بالرغم من عدم حصول ممثلي التيار الإمامي على التفويض المباشر من الإمام
الغائب (ع)،
إلا أنهم تمتعوا
تاريخياً بنفس الصلاحية التي كانت لدى داعي الدعاة بعد أن استشعرت الفرقة الإمامية
خطر الفراغ القيادي فكان النموذج الاسماعيلي في القيادة هو الأنسب لها مع الفارق
في التفويض. فداعي الدعاة كانت لديه صلاحيات مطلقة على الشأنين الديني والسياسي
وكان المؤمنين الإسماعيليين لا يساورهم الشك ولو للحظة في أن قوله وفعله
معصوم.
[٢]
في
الواقع، تبدو الفتوى والفقه كقمم جليدية تعلو جبلاً مفاهيميا أو أيقونة ينضوي
تحتها العديد من المفاهيم الدينية والثقافية، فيصبح أبسطها اطلاق حكم الحلال أو
التحريم على مواضيع المعاملات أو العبادات، لان المفهوم العميق والكامن وراء
المرجعية هو الارتباط بالمتعالي وديمومته وعبوره عن طريق البوابة المقدسة؛ القطب،
الولي، الإمام أو من ينوب عنه. فهذا هو الجانب الباطني للمرجعية وذلك لم يبرز معنا
عندما قاربنا المسألة من الناحية الظاهرية أو المادية للمرجعية وفرضية مفهوم داعي
الدعاة الاسماعيلي لتشابه البيئة الشيعية الجامعة والصلات التاريخية.
هنا نحن نضع فرضية أخرى
من أجل الكشف عن سلطة المرجعية والتي يخضع لها الفرد الشيعي طواعية، والتي وصفناها
سابقاً بأنها حتمية ثقافية في سياقها الاجتماعي؛ وهذه الفرضية هي العرفان أو
التصوف الطرائقي وثنائية الشيخ والمريد الصوفي.
يصعب وضع تعريفات محددة
للتصوف أو العرفان، فكما تقول الباحثة في جامعة هارفارد "آنا ماري شيمل"
(من بدأ بحثه في الصوفية بتتبع بعض خطوطها الأساسية من الناحية التاريخية وبالكشف
عن بعض ظواهرها لا يأمل في الوصول إلى نتيجة مرضية تماما"، لكن ذلك التحذير
لا يمنعنا من الحديث عن بعض جوانبها و الكشف عن الانزياحة المفاهيمية المهمة
والعميقة عندما تحولت من تأويل ديني نخبوي، كالحلاج مثلا، إلى ممارسة شعبية
لها طرقها المتعددة.
كان التصوف المبكر يعكس
الفردانية في تأويلها للنفس والعالم بمعزل عن الوصايا الرسمية للدين، بل تجده
عائقاً أما تشوفها للاتحاد مع الله، حيث يقول ابن سبعين "ان ابن آمنة كسر
ظهور الأولياء عندما قال لا نبي بعدي"! فذلك هو الوجه المتطرف للصوفية، لكن
وبعد تصادمها مع الدين الرسمي في حادثة الحلاج، أخذ التصوف يحمل على الفقهاء فقط،
وكونهم حاجزاً لا بد من إزالته (الفقهاء مثل الصخرة على فوهة النبع؛ لا هي تشرب
منه ولا تدع الماء يجري في مسالكه)، حتى جاء الغزالي وصالح التصوف مع الدين
الرسمي.
ذلك في الإطار العام
للتصوف، أما في الوجهة الشيعية فقد بدأ التصوف بالانسجام مبكراً مع المجتمع
الشيعي، حيث تذكر آنا سيميل أنه وجدت رسائل متبادلة بين الحلاج والدعاة الشيعة
الإسماعيلية وبالذات القرامطة، أما الإمامية وهو موضوعنا فقد شابها موجات من
الصعود والهبوط تذبذباً نتيجة إلى عوامل عديدة لكن أبرز شخصياتهم المتأخرين
والمؤثرين هو حيد آملي في القرن التاسع الهجري، حتى جاء أبن أبي جمهور الاحسائي
وملا صدرا وصالحوا التصوف "العرفان" بالشريعة والفلسفة الإشراقية.
وما يهمنا حقيقة هو
الشكل الطرائقي في كليهما "التصوف والعرفان"، لان فرضيتنا تقول بأن هناك
ارتباط بين المرجعية والفهم الصوفي في ناحية علاقة الشيخ والمريد.
[٣، والأخيرة]
يوضح هنري كوربان
الفارق بين التصوف السني والعرفان الشيعي في أنهما يختلفان في مفهوم التنزيه.
فالشيعة يعتبرون الاتحاد تجاوزاً على حدود الذات الإلهية واستحالة ذلك بكون الله
تعالى ليس بشيء يمكن الاتحاد معه، لذلك يجعلون من الامام مثالاً منطقياً يمكن أن
يكون محل الاتحاد العشقي لتجانس الطبيعتين. ولكن حتى هذا اللون من الاتحاد يبقى
فردياً نخبوياً لخاصة الخاصة ويأتي نتيجة طويلة للمجاهدة والرياضات الروحية الشاقة
فكيف وصل إلى العامة؟
تروي الصوفية حديثاً
نبويا (الشيخ في مجتمعه كالنبي في قومه) ويقول الشيخ العارف العطار (أن الفناء في
الشيخ هو موصول إلى الفناء في النبي)، وتقول الباحثة شيمل أن الرابطة القوية بين
الشيخ والمريد تتضح في مهارة التوجه بالشيخ، بمعنى التركيز في الشيخ من ضروريات
الذكر الناجح.
لكن متى كانت بداية
تكون هذا اللون من الممارسة الصوفية الشعبية والطرائقية؟
تجيب الباحثة التونسية
لطيفة الأخضر في كتابها "الإسلام الطرقي" أن مرحلة الانتقال من التصوف
النخبوي والفكري إلى التنظيم الجماعي للتصوف وقع في القرن التاسع الهجري في
ظرفيات تاريخية خاصة وترجعها إلى الظروف الاجتماعية السياسية في المغرب العربي،
لكن أليس هو نفس التوقيت الذي تحولت في إيران من جماعات الطرق الصوفية إلى دولة
شيعية، وكذلك نفس الوقت الذي أرتقى فيه العرفان الشيعي إلى قممه الرفيعة مع حيدر
آملي، وبعدها أخذ دور المرجع في التطور من فقيه إلى مرجع ونائب الإمام، والرسالة
العملية.. حتى وصوله إلى الذروة وعلى يد "البابية"، واخف منها
"فرقة لركنية" المعاصرة والتي أنشقت عن الشيخية وجعلت من المرجع ركناً
رابعاً للإيمان بعد التوحيد والنبوة والإمامة ثم الولاء لنائب الامام باعتباره
محلاً لجريان الفيوضات الإشراقية.
أخيراً، لعل هذه
الفرضية هي العامل الحاسم في موقع المرجع من النفوس المتدينة، وكون التدين الشعبي
لا يقبل بالتجريد، إنما في تجسيد قيمه الروحية بشكل بسيط وواضح كشخوص يسهل معها
تواصله.
أرجوا أن لا أكون قد
تعسفت كثيراً في وصلي المرجعية بجذور ثقافية متعددة.
التقليد في مواجهة العقل
علي الحمد
الجزء الأول:
سأبدأ حديثي بسؤال بسيط
تمهيداً للموضوع. أولاً هل عقل الإنسان قاصر؟
يبدو لي أن الإجابة
الظاهرة على هذا السؤال هي: نعم عقل الإنسان قاصر. السؤال الثاني الذي يجب عندها
أن نسأله هو كيف عرفنا أن عقل الإنسان قاصر؟ والإجابة الظاهرة هنا أيضاً هي: لقد
أثبتنا ذلك بالعقل. ولكن هنا يأتي سؤال ثالث مهم وهو كيف يمكن الاعتماد على شيء قاصر
في إثبات أي شيء؟ وهنا تختلف الآراء وتتفاوت الإجابات بما يخرج عن نطاق موضوعنا،
ولكن الإجابة التي اقتنعت بها أنا شخصياً هي: لأننا ببساطة لا نملك بديلاً عنه. أي
أننا وبغض النظر عن كمال عقولنا أو قصورها فإننا لا نملك وسيلة أخرى غيرها للحكم
على الأشياء واتخاذ القرارات. فالعقل يشكل لدى الإنسان آلة فريدة لا مثيل لها ولا
بديل عنها أبداً. فهي الوسيلة النهائية لدى الإنسان للحكم على القضايا المختلفة
وإن ادعى البعض قصوره، فإنه يبقى الوسيلة الوحيدة لإدراك أوجه هذا القصور الذي
يعتريه. فهو بذلك يصبح المرجع لنفسه وهذا وضع فريد في هذا العالم. وذلك يحدث بشكل
قهري للإنسان، حيث أن البرهان العقلي يقهر العقل على التصديق، فلا يلام العقل على
تصديق ما ثبت له صدقه أو تكذيب ما ثبت له كذبه. نعم، يمكن للإنسان أن يتبع عقول
البشر الآخرين، ولكن حتى هذا الاتباع لا قيمة له ولا معنى له مالم ينبني على إثبات
وبرهان عقلي بصحته وأفضليته على سواه من الوسائل. فلو وقعت في مشكلة لا سمح الله
وعجزت عن التوصل إلى قرار لوحدك، فإنك لن ترجع إلى طفل أو مجنون أو من هو أقل
علماً وخبرة منك. بل لابد أنك سترجع إلى من هو أعلم منك وهذا ما يسميه الأصوليون
برجوع الجاهل للعالم. ومعرفة هذا العالم تحتاج بلاشك إلى تحكيم العقل فمن الواضح
أنه لا يكفي أن تعرف أن هذا الشخص ليس طفلاً ولا مجنوناً بل لابد أن يكون مستنداً
على مصدر معتبر وعلم صحيح ومنهج سليم بالإضافة إلى كونه أميناً كشخص للوصول إلى
نتائجه. في النهاية وحتى تتبع عقلاً آخر يجب أن يثبت لك عقلاً صحة اتباعه. فالعقل
البشري هو المرجع النهائي بالنسبة للإنسان عند الحكم على أي شيء حتى في حال قرر
اتباع من هو أعلم منه. بل وحتى إذا كان هذا الأعلم نبياً يوحى إليه، فالعقل هو
الوسيلة الوحيدة للتفرقة بين النبي ومدعي النبوة وبين الدين الصحيح والدين الكاذب،
فالعقل هو المرجع النهائي لكل شيء حتى للأديان والمعتقدات وبه يُعرف المعتقد
الصحيح من المعتقد الخاطئ بينما لا يصح أن تعتمد مثلاً على تقليد الآباء والأجداد
في ذلك، لأن تقليد الآباء والأجداد أو مايسمى بالإيمان الوراثي، ليس معياراً مقبولاً
للصواب والخطأ. وهنا نصل للسؤال المهم الأول وهو: أين يقع التقليد في الفقه
بالنسبة للعقل؟ وهل اتباع آراء الفقهاء هو من باب الاتباع العقلائي أم الاتباع
للآباء والأجداد؟ بعبارة أخرى، هل نحن نقلد الفقهاء لأننا معتقدون بصحة هذا
التقليد أم لأننا رأينا أهلنا يقلدونهم من منطلق (إِنّا وَجَدنا ءاباءَنا عَلىٰ
أُمَّةٍ وَإِنّا عَلىٰ ءاثٰرِهِم مُقتَدونَ)؟ وهل يمكن الاعتماد على الفقه وغيره
من العلوم الشرعية في تسيير شؤون الحياة؟
الجزء الثاني:
أين يقع التقليد في
الفقه بالنسبة للعقل؟ وهل اتباع آراء الفقهاء هو من باب الاتباع العقلائي أم
الاتباع للآباء والأجداد؟ بعبارة أخرى، هل نحن نقلد الفقهاء لأننا معتقدون بصحة
هذا التقليد أم لأننا رأينا أهلنا يقلدونهم من منطلق (إِنّا وَجَدنا ءاباءَنا
عَلىٰ أُمَّةٍ وَإِنّا عَلىٰ ءاثٰرِهِم مُقتَدونَ)؟ وهل يمكن الاعتماد على الفقه
وغيره من العلوم الشرعية في تسيير شؤون الحياة؟
للإجابة على هذا السؤال
يجب أن نعرف كيف يمكننا تقييم العلم؟ وهنا نجد أن الموضوع وإن كان متشابكاً
ومعقداً قليلاً ولكن يهمنا ثلاثة مصطلحات، الأول هو العلم البحت Science وهذا يشمل العلوم الحديثة كالفيزياء
والكيمياء والجيولوجيا والفلك والتي تستخدم المنهج التجريبي والثاني هو العلوم
الإنسانية Humanities وهو يشمل التاريخ وعلم الاجتماع واللغة والأدب والفنون والتي
تستخدم المنهج الوصفي أو النقدي أو المقارن دون المنهج التجريبي والثالث هو أشباه
العلوم Pseudo-science أو العلوم الكاذبة كعلم الأبراج وتفسير الأحلام والفرينولوجي
والتي لا تسير على منهج علمي واضح وتفتقر لإمكانية التحقق من نظرياتها
ومصادرها.
في كل عصر يثق الناس
بمجموعة معينة من العلوم بناءً على نظرتهم إلى ثلاث جوانب منها، ربما حتى يكتشفوا
ماهو أفضل منها. هذه الجوانب هي ١-موضوع العلم ٢-منهجيته ٣-نتائجه. في الغالب يهتم
عامة الناس بالحكم على النتائج أولاً. فالمهندسون مثلاً يدعون قدرتهم على مساعدة
الناس في بناء بيوتهم، لذلك فالنتيجة المتوقعة من اللجوء لهم هي بناء بيوت قوية
وآمنة ومعمرة في الأعم الأغلب حتى ولو كان هناك مجال للخطأ وتسبب ذلك بسقوط بعض
البيوت. إذ مادامت الناس تجد بالتجربة أن فائدة اللجوء للمهندسين أكثر من ضررها
فمن المتوقع أن تقتنع بالعلم الذي يعتمدون عليه حتى لو كانت تجهل مصادره ومنهجياته
وآلياته.
الجانب الثاني هو موضوع
العلم وهو يشمل النظرية التي يقوم عليها العلم. ومثال هذا علم الجماجم (فرينولوجي)
والذي انتهى وتخلى الناس عنه عندما ثبت بطلان نظريته التي تقوم على أن شكل رأس
الإنسان يعكس شكل دماغه وبالتالي يحدد مستوى ذكائه وعواطفه وانفعالاته.
كما أن موضوع العلم،
يشمل المصادر التي يعمل فيها الباحثين معاولهم من أجل استخراج النتائج العلمية،
فهي المجتمعات البشرية حين نتحدث عن علم الاجتماع وهي النصوص الدينية حين نتحدث عن
العلوم الشرعية وهي النجوم والكواكب حين نتحدث عن علم الفلك. وهنا يبدو لي أن هناك
اتجاهان. الأول يشمل العلوم ذوات المصادر الحاضرة والذي يتسم باستمرار الوجود
الزمني لمصادره أو تزايدها وتراكمها بمرور الزمن. والثاني يشمل العلوم ذات المصادر
التاريخية والذي يتسم بثبات الحدود الزمنية لمصادره أو تآكلها وتناقصها بمرور
الزمن. العلوم ذات المصادر التاريخية يشمل علم التاريخ وعلم الآثار وعلم الأحياء
القديمة (الباليونتولوجي) والتي يكون مصدر المعرفة فيها عادة أحداث تاريخية حدثت
في الماضي. هذا الالتفات إلى الخلف كان هو السائد في أغلب علوم الماضي حتى غير
التاريخية منها حيث كان الأطباء مثلاً يقدسون وبشكل كبير ما ألفه رواد الطب
وعلماؤه العظام كأبوقراط أو جالينوس أو ابن سينا أو غيرهم، حتى قيل"إذا خالفت
الجثة رأي جالينوس فقد صدق جالينوس وكذبت الجثة". ولم يكن البشر يملكون وسيلة
للوصول بأنفسهم لمصدر هذا العلم أو لإعادة إنتاج المعرفة التي جاء بها هؤلاء من
جديد، والتي كانت تتآكل وتضيع وتُفقد ويزاد فيها ويُنقص منها وتتغير بمرور الزمن.
هذا الاتجاه الماضوي تخلى عنه البشر جزئياً عندما اكتشفوا العلوم ذات المصادر
الحاضرة وأصبح بإمكانهم الوصول للمعرفة بأنفسهم حيث يمكن إعادة إنتاج المعرفة
بإعادة التجربة أو إعادة الإحصائية مرات ومرات فالمصدر الأساسي للعلم موجود دائماً
في العلوم ذات المصادر الحاضرة وذلك بخلاف العلوم ذات المصادر التاريخية.
الجانب الثالث هو
منهجية العلم، وتشمل كل الآليات والأدوات والضوابط التي توصلنا من مصادر العلم
ومنطلقاته الأساسية إلى نتائجه. ففي حال عدم إمكانية قياس وتجربة النتائج
بشكل مباشر فإن الطريقة الوحيدة لتقييم صحتها هو بتتبع منهجيتها والتأكد من سلامة
هذه المنهجية. وهنا تبرز المنهجية العلمية الحديثة أو الطريقة العلمية Scientific
Method
كآخر ما توصل له البشر من منهجيات. فالطريقة العلمية تقلل احتمال الخطأ في النتائج
وتسمح لنا بتحييد الأهواء والآراء والتحيزات والدوافع الشخصية. وهذا يتم من خلال
إمكانية التحقق منها من قبل العلماء الآخرين بمختلف توجهاتهم وخلفياتهم. ولذلك نرى
أن العلم الحديث قد تجاوز الحدود والثقافات، بينما العلوم اللامنهجية مازالت تسبب
المزيد من العزلة والانقسام فيما بين العلماء. فلا يقبل أنصار توجه معين أي رأي أو
اعتراض أو خبر من عالم ذو توجه آخر، وبذلك يزداد مقدار التحيز للآراء بدلاً من
انخفاضه.
الجزء الثالث:
نأتي الآن لمناقشة بعض
الأمثلة من العلوم الشرعية في ضوء ما سبق وتحدثنا عنه، وسأركز بالخصوص على الجانب
المنهجي منها.
من الملاحظ أن كثير من
العلوم الشرعية (مثل الحديث والرجال والفقه وغيرها)، مازالت تتبع المنهجيات
والنظريات القديمة والقائمة على طريقة النظر العقلي. فليس هناك إمكانية للتحقق من
غالبية نظرياتها ونتائجها بما يعزز من قيمتها البرهانية. فهي بالتالي مازالت حبيسة
آراء الرجال ومكانتهم الاجتماعية. وهنا عدة مشاكل،
الأولى هي سحب قداسة
المعتقد الديني على العلوم الدينية. فالمعتقد الديني وإن كان له قداسة في نفوس
معتنقيه إلا أن محاولات البشر لتطبيق هذا المعتقد في حياتها اليومية ليست مقدسة
فهي مجرد علوم بشرية ذات مصدر ومنهج ونتائج، والخطأ وارد في أي جانب من هذه
الجوانب. فمن حق الناس الاختلاف حول إن كانت هذه العلوم هي علوم صحيحة ذات منهجية
سليمة أو لا، وإن كانت نتائجها دالة بالضرورة على ما يجب الإيمان والعمل به من
التكاليف الشرعية أو لا، لأن المرجع النهائي لهذا الحكم في نهاية المطاف هو
لعقولهم. المشكلة الثانية هي اعتبار المنجزية والمعذرية لها، بمعنى أن نتائج هذه
العلوم يجب اتباعها ويستحق تاركها العقاب ولو كانت ناتجة عن ظن أو احتمال من
الفقيه كما أنه معذور لو عمل بها بغض النظر عن أثرها الواقعي والتكويني. ورغم أنهم
يستدلون باستدلالات عقلية على هذا الأمر، إلا أن الفلسفة الكامنة تحته تقوم على أن
الهدف النهائي من الأحكام الشرعية ليس مصلحة ومنفعته الإنسان في هذه الدنيا وإنما
معرفة المطيع من غير المطيع من أجل الثواب والعقاب في الآخرة.
المشكلة الثالثة هي عدم
الاعتراف عملياً بإمكانية الخطأ لدى علماء الدين وبالتالي إلزام الناس بنتائج
اجتهاداتهم حتى لو كانت ظنية وتحتمل الخطأ. إذ من المتفق عليه أنه يجوز للإنسان أن
يعمل بالظن ولكن الناس لم تتفق حول إن كان يجب عليه ذلك، وهذا ما يسمى في علم
الأصول بـمسلك (قبح العقاب بلا بيان) أو (أصالة البراءة) وهو مسلك فكري جميل
وأكثر إقناعاً من مسلك (حق الطاعة) والذي يعمل به أكثر الفقهاء، ولكنه مرفوض
لأن أحد نتائجه هو التخلي عن أخبار الثقات التي تحث الناس على الاحتياط.
وفي هذا إهمال
للاختلاف البشري الطبيعي. فمقدار عمل البشر بظنونهم واحتمالاتهم ومستوى احتياطهم
متفاوت. فالبعض عند مرضه قد يأخذ الدواء الذي وصفه الطبيب مهما كانت كلفته لوجود
احتمال بسيط للشفاء والبعض الآخر قد يرفض ذلك ولا يمكن نسبة أحد الحكمين للعقل دون
الآخر.
المشكلة الرابعة هي وضع
نتائج العلوم الشرعية الحالية ضمن ما يسمى بـ "المعلوم من الدين
بالضرورة" فهو يمنع العلماء الآخرين من التشكيك فيها، وبذلك يمنع إخضاعها
للتحقق تحت طائلة التهديد بحكم الردة والاستتابة أو القتل. يقول الفاضل المقداد
ت٨٢٦هـ: " الكفر اصطلاحا هو إنكار ما علم ضرورة مجيء الرسول به ". وبذلك
يُنفى الإسلام تلقائياً عن من يتجرأ على مراجعة أدلة ذلك "المعلوم
بالضرورة" أو مبانيه أو يصل لنتائج تخالفه وتُضفى بذلك هالة من القدسية على
ما تعارف عليه عامة المسلمين بدون السماح بالتدقيق في منهجيات العلوم التي أنتجت
تلك المعارف. وبذلك يتم تقديم الإيمان الوراثي على البحث المنهجي والعلمي رغم أن
تقليد الآباء والأجداد ليس معياراً سليماً للصواب والخطأ.
الجزء الرابع والأخير:
إذا نظرنا إلى علم
الحديث وعلم الرجال كأمثلة، نجد أن إمكانية التحقق من صدور الحديث النبوي محصورة
حالياً بالبحث في "صحة" الحديث و "ضعفه". والحديث الصحيح هو
الذي رواته ثقات، وهذا يطرح أسئلة كثيرة. فهل ثقة فلان بفلان تعني أن فلاناً صادق
بالضرورة؟؟ فإمكانية التنبؤ بدقة بصدق الأشخاص أو كذبهم من خلال وثاقتهم أو
ضعفهم، هو ادعاء يحتاج في ذاته للتحقق منه بشكل منهجي. وهو ما استطاعت
المنهجية العلمية إبطاله منذ عدة قرون، حيث قامت بفصل "الموثوقية
النفسية" للأشخاص عن صوابهم. بل وهناك محاولات متعددة للخروج من الهيمنة
اللامنهجية على نظريات علمي الحديث والرجال ومع ذلك لم تلاقِ قبولاً وترحيباً بين رواد
تلك العلوم. ومن ذلك القانون الكلي للفخر الرازي، والذي قال قبل ما يقارب الألف
سنة، أن كل النقولات تفيد الظن إلا بشروطٍ عشرة يندر أو ربما يستحيل اجتماعها.
وقد حاول الأصوليون حل
هذه المشكلة بالقول أن الشارع هو الذي أعطى خبر الثقة وسواه من الحجج الظنية هذه
المكانة. وكأنهم يقولون أن خبر من يقول عنه فلان وفلان أنه ثقة هو حجة عليك يجب
التزامه حتى لو كان في واقعه كاذباً. ولكن المفارقة هي أنهم اعتمدوا في إثبات هذا
الأمر الشرعي بوجوب اتباع الخبر الظني على روايات تقول بحرمة تكذيب الثقة، وبوجوب
اتباع أخباره. طبعاً هم لا يمكنهم أن يقولوا أن هذه الروايات ظنية كباقي الروايات
لأننا حينها سنسأل وكيف ثبت وجوب اتباعها أصلاً؟ لذلك يقولون أن هذه الروايات
قطعية لتواترها. وحتى لا أطيل في نقد التواتر يمكن الاطلاع على بحثي السابق
"أزمة العلوم الشرعية في مقابل المنهجية العلمية الحديثة
الجزء الأول: التواتر
وغيره من الأخبار النقلية". والذي أصل من خلاله لنتيجة مفادها عدم موضوعية
التواتر وغلبة الجانب الشخصي على ادعائه.
الخاتمة:
نعم من المسلّم به أن
العلوم الشرعية نشأت في عصور كانت الغلبة فيها للعلوم النظرية، وبالتالي لم يكن من
الشائع مطالبة العلماء في ذلك الوقت بإثبات نظرياتهم وادعاءاتهم تجريبياً، أما
الآن ونحن نرى الكثير من الادعاءات النظرية تبدي فشلها الذريع عند إخضاعها للتجربة
فينبغي علينا أن نحذر من الأخذ بتلك النظريات كمسلمات، خصوصاً وأن المترتبات عليها
كبيرة جداً وصلت في كثير من الأحيان لقتل مخالفيها أو إهدار دمهم. فالدين بشكله
الحالي والذي يستهلك حيزاً كبيراً من حياتنا اليومية ما هو إلا نتاج تلك العلوم
الشرعية. أفلا يحق لنا بعد ذلك مطالبة رجال الدين بتحديث منهجياتهم البحثية
والتحقق من صحة نظرياتهم وادعاءاتهم قبل توجيهها للناس كمسلّمات يجب التعبد
بها؟؟
في الختام وحتى يمكن
اعتبار العلوم الشرعية علوماً حقيقية وحتى يصبح الرجوع للفقهاء بمثابة رجوع الجاهل
للعالم لابد أن تنبني ثقتنا بالفقه على منطلقات وبراهين عقلية ولا يكفي أن يكون
مبناها هو أننا رأينا آباءنا يرجعون للفقهاء فرجعنا إليهم.
المراجع والتقليد والعوام
عبدالله بوخمسين:
لاشك أن معنى التقليد لغة وشرعا تابع مقيد بمن
يتبع في أمور خاصة أو عامة فإن كان في
أمور الدين فإنما ينحصر في فروعه من جاهل بأمورها لعالم مبرء للذمة مشهود له
بالفضل والفضيلة ومجازا لتسنم هذا المحل الأرفع في إصدار الفتوي لما يستجد مما
يحتاج لها وبالتالي فإن الشيعة غير مقيدين بذات مرجع فلكل واحد الخيار لمن يطمئن
إليه مع عدم قدرته على معرفة العالم من الأعلم والفاضل من المفضول
إلا أن المرجعية باتت تشكل تحزبات وانقسامات في الطائفة سببت الكثير من التناحر يصل حتى في المراجع أنفسهم حد التفسيق والتكفير على أن هذا ليس بغريب حيث أن ذلك حصل في بداية القرن الثالث أيام الحلي والطوسي ومن بعدهم وصولا لعصرنا الحاضر لما اختلفوا على ولاية الفقيه وفسقوا الإمام الخميني أو حتى على قول رأي للسيد فضل الله حول السيدة الزهراء أو الدكتور الفضلي فسق حول بعض آراءه حول الغلو ومايحدث الآن بين الشيرازيين القائلين بالتطبير وغيره ومن يحرمه مثل الخامنئي والذي فسق وكفر وغيره ممن يرى رأيه
فإذا ماذا نتوقع من المقلدين والذين يوصفون بالعوام والجهال من هؤلاء المجتهدين أليس الأولى أن يكونوا على خلاف أكثر من مراجعهم
والأدهى والأمر من ذلك ما يحدث من أمر الخمس ومآله كما حدث بعد وفاة الخوئي وعندما استفرد أبناؤه بتلك الأخماس التي تقدر بمئات ملايين الجنيهات الإسترلينيه والتي على أثرها قتل عبدالمجيد الخوئي وقطع أوصالا
إن المرجعية والتقليد يجب أن تعاد صياغتهما بحيث تكون مؤسسه علميه معرفيه دينية جامعة تشمل جميع التخصصات ويوظف فيها الصلحاء من الناس لخدمة المجتمع بكافة إحتياجاته
والخروج من كهنوتية المراجع التقليديين وذلك باعتبار أنفسهم وكلاء الله على عباده
إلا أن المرجعية باتت تشكل تحزبات وانقسامات في الطائفة سببت الكثير من التناحر يصل حتى في المراجع أنفسهم حد التفسيق والتكفير على أن هذا ليس بغريب حيث أن ذلك حصل في بداية القرن الثالث أيام الحلي والطوسي ومن بعدهم وصولا لعصرنا الحاضر لما اختلفوا على ولاية الفقيه وفسقوا الإمام الخميني أو حتى على قول رأي للسيد فضل الله حول السيدة الزهراء أو الدكتور الفضلي فسق حول بعض آراءه حول الغلو ومايحدث الآن بين الشيرازيين القائلين بالتطبير وغيره ومن يحرمه مثل الخامنئي والذي فسق وكفر وغيره ممن يرى رأيه
فإذا ماذا نتوقع من المقلدين والذين يوصفون بالعوام والجهال من هؤلاء المجتهدين أليس الأولى أن يكونوا على خلاف أكثر من مراجعهم
والأدهى والأمر من ذلك ما يحدث من أمر الخمس ومآله كما حدث بعد وفاة الخوئي وعندما استفرد أبناؤه بتلك الأخماس التي تقدر بمئات ملايين الجنيهات الإسترلينيه والتي على أثرها قتل عبدالمجيد الخوئي وقطع أوصالا
إن المرجعية والتقليد يجب أن تعاد صياغتهما بحيث تكون مؤسسه علميه معرفيه دينية جامعة تشمل جميع التخصصات ويوظف فيها الصلحاء من الناس لخدمة المجتمع بكافة إحتياجاته
والخروج من كهنوتية المراجع التقليديين وذلك باعتبار أنفسهم وكلاء الله على عباده
مسائل خلافيه بين المراجع
عبدالله بوخمسين:
إن من أهم المسائل الخلافية
عند مراجع الشيعة وفقهائهم هي مسألة تقليد الميت بحيث أن بعضهم حلل والآخر حرم مع
العلم أن كل فريق منهم يستند على صحة مايراه دليلا بشقيه العقلي والنقلي ليدمغ
حجته
من أجل فتواه وفي ذلك 3 آراء هي كالتالي:
1جواز
تقليد الميت على الإطلاق وهذا عند المدرسة الإخبارية حيث أجازوا ذلك إبتداء وأهم مراجعهم رحمهم الله الشيخ يوسف البحراني والحر العاملي وحسين
العصفور وغيرهم وكلهم علماء أعلام ومراجع يشار لهم بآنهم من أكابر العلماء عند
الشيعة المنتمين للمدرسة الأصوليه إبتداء على أن هذ الرأي لم تنفرد به الإخباريه
إنما وافقهم بعض فقهاء المدرسة الأصوليه
2 حرمة
تقليد الميت على الإطلاق
وهذا الحكم عند علماء الشيعة المعاصرين ومن سبقهم في القرنين
الثاني عشر والثالث عشر الهجريين وهؤلاء يذهبون إلى وجوب تقليد الحي بل إن بعضهم
يوجب البقاء والإستمرار على تقليده بعد موته ولايحق له تغييره حيث يستدلون على صحة
فتواهم بالعهود والمواثيق متصلة السلسله وقد قال بذلك السيد محمد الصدر وصادق
الشيرازي وشمس الدين الواعظي
أما البشير النجفي فقد صدر كتابا بعنوان ..وقفة مع مقلدي
الموتى..يرد فيه على أستاذيه السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي طارحا فيه أدلته وقد
شاركه في غير كتابه بالرأي الصادق الروحاني
3 إختلف
المراجع كذلك في البقاء على الإستمرار والبقاء على تقليد الميت كما ذكر في 2 أو
العدول عنه مع وجود الأعلم أو حتى مع عدم وجود الأعلم إنه لا يجوز البقاء على تقليد المرجع الميت إلا
في حالة الضرورة في عدم وجود مرجع جامع للشرائط التي ذكرها الإمام العسكري
هذا وقد أجمع معظم المراجع الكرام على جواز التبعيض في حالة
توقف المرجع عن إصدار الفتوى في مسألة معينه أو يفتي بالإحتياط الواجب ففي هذه الحاله يجوز للمقلد الأخذ بالإحتياط أو
التبعيض وذلك بالرجوع لمرجع آخر في المسألة ذاتها على أن المراجع لم يجوزوا لامقلد
التبعيض فيما شاء متى ماشاء. مع العلم أنهم لايرون العدول عن المرجع في أي من
الأحوال غير موت المرجع عند البعض
المدارس الفقهيه من اﻹمام علي إلى اﻹمام جعفرعليهما
السلام
عبدالله بوخمسين:
عبدالله بوخمسين:
ألفقه لغة الفهم والعلم بالشئ والفطنه وإدراكه إدراكا لا يحتمل
الظن ،،،يقال فقه فلان أي فهم وأدرك
المعنى والله يقول{قالوا ياشعيب ما نفقه
كثيرا مما تقول}سورة هود آيه 91،،،وإذا قيل تفقه فلان تفقها أي بمعنى تعاطى الفقه
بمعناه الشرعي وهو دراسة النصوص من أجل إستخراج الحكم الشرعي والموصل لصحة التعبد
بطرقه المتكامله وقد أشار القرآن إلى هذا النوع من العلم في قوله تعالى{ليتفقهوا
في الدين}سورة التوبه آيه122 وفي قول علي عليه السلام {علمني رسول الله ألف باب من
العلم ففتح الله لي من كل باب ألف باب}وكما يروى من دعاء النبي صل الله عليه
وآله{اللهم فقهه في الدين}وتوضيح معنى الفقه في اﻹصطلاح الشرعي بأنه العلم بطرق
استنباط اﻷحكام الشرعية العملية بإدراكها من أدلتها التفصيلية واستنباطها بما لا
يتوافق مع هوى النفس أومصلحتها أو لمصلحة آخر،،فإن
كان كهذا فهذا ليس بعالم ولا فقيه إنما هو عالم نفعي سلطاني كما في قول الدكتور علي
الوردي في كتابه وعاظ السلاطين،،
ولقد برع كثير من العلماء في هذا العلم من العهد الرسالي اﻷول
في عاصمة الرسول صل الله عليه وآله في المدينة المنوره والتي أصبحت عاصمة الدولة
اﻹسلاميه حتى سنة 35 هجريه
أما في العهد الراشدي فقد برز اﻹمام علي بن أبي طالب حيث كان
يمثل أول مدرسة فقهية بعد رسول الله حيث كان معظم الصحابة بمن فيهم المتفقهين
يسألونه فيما يشكل عليهم في أمور دينهم ودنياهم بما فيهم الخليفتان الراشدان
أبوبكر وعمر رضي الله عنهما
وماقول عمر بن الخطاب في علي{لولا علي لهلك عمر} إلا دليل على
أن عليا يمثل مدرسة فقهية وأنه محل ثقة بلا منازع وقول عمر ذكره الحاكم في
المستدرك وابن سعد في الطبقات الكبرى والخوارزمي في مناقبه وذلك في قصة حدثت وقت خلافة عمر من أن امرأة
زنت فحملت وأقرت فحكم عليها عمر بالرجم ولما استفتى عليا أجاب قائلا{سلطانك عليها
وليس على ما في بطنها} فإذا يتضح أن المسلمين ومن بعد العهد النبوي كانوا في حاجة
لمن يعلمهم ويرشدهم ﻷمور معاملاتهم وعباداتهم ومعاشهم ،،على أن بعض الصحابة ك عبد
الله بن عباس و معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وغيرهم كانوا
يعدون من المتفقهين وهم من الجيل الذي بعد الصف اﻷول من الخلفاء وأترابهم من بقية
الصحابه،،
أما في نهاية القرن اﻷول وبداية القرن الثاني الهجري وفي
المدينة المنورة فقد كان أشهر المدارس الفقهيه هي مدرسة اﻹمام جعفر بن محمد الصادق
اﻹمام الخامس من أئمة أهل البيت عند الشيعه اﻹثنا عشريه والسادس عند الشيعه
اﻹسماعيليه حيث كانت مدرسته في المسجد النبوي الشريف ،،واﻹمام الصادق ولد بالمدينة
سنة80 وتوفي بها سنة 148 هجريه ،،وهو يعد عند أهل السنة من أكبر العلماء فهو
أكثرهم علما وحلما وورعا وهو فيلسوف وطبيب وكيميائي وفيزيائي وفلكي ذكر ذلك الشيخ أبو زهره وهو من علماء
اﻷزهر في كتابه اﻹمام الصادق وقد اكتسب مكانة جليلة عند كبار علماء أعل السنة على
اختلاف انتماءاتهم خاصة عند النقشبنديه وهم صوفيون من أهل السنة ذكر ذلك اﻷستاذ
عبدالخليم الجندي في كتابه الموسوم {اﻹمام جعفر الصادق}ص 130
وقد ذكر كثير ممن كتب عن مدرسة اﻹمام الصادق بأن عدد تلاميذه
مايقارب ال4000 طالب يتوزعون في حلق كل في اختصاصه حيث حلقة للفقه وأخرى للحديث
وأخرى للعلوم الطبيعية وأخرى للعلوم اﻹنسانيه ،،يلاحظ في هذا التوزيع أن هذه
المدرسة هي اﻷولى في فرز التخصص وما يدل على صحة هذا القول تخرج تلاميذه في مثل
هذه التخصصات،ولعل أشهرهم أبو حنيفة
النعمان الفقيه إمام المذهب الحنفي وجابر بن حيان الكيميائي وأحمد بن بشير الكوفي
القرشي وهو راوي للحديث ويوصف بالشعوبية لميله للفرس توفي سنة197 في شهر محرم
وأحمد بن بشار الصيرفي المتوفي سنة195 وأحمد بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن
أبي طالب
وأما أشهر من روى عن اﻹمام الصادق فهم مالك بن أنس وسفيان
الثوري وابن جريح وشعبه بن الحجاج وإسماعيل بن جعفر
على أن مدرسة المدينة لا تقتصر على مدرسة اﻹمام الصادق فقد كانت
هناك مدارس أخرى وهي تصنف بأنها من مدارس أهل الحديث وتعتمد على الرواية واﻷثر
وسميت بهذا اﻹسم ﻷن العراق قد أسست فيه وبالتحديد في الكوفة والبصره مدارس فقهية
وعلمية وفكرية تختلف في رؤيتها عن مدارس أهل الحديث وهي متأثرة بمدرسة اﻹمام
الصادق وتعتمد على اﻹجتهاد والعقل والفكر وتنوع العلوم والمعارف حيث دخل فيها علم
الكلام والفلسفة والمنطق و هذه المدارس تأثرت بالحضارة الفارسية واليونانية ،
وبرجوعنا إلى مدرسة اﻹمام الصادق نجد أن أول من صنف كتابا في
الفقه وأحكامه هو اﻹمام موسى الكاظم إبن اﻹمام جعفر سنة183هج ثم اﻹمام الرضا والذي
كان وليا لعهد المأمون واﻹمام الرضا مولود سنة148في المدينة المنوره وتوفي في
سنة203في خراسان من بلاد فارس وفي عهده أسس أبو جعفر الصفار اﻷعرج القمي المدرسة الفقهية اﻹماميه في بلاد فارس وذلك سنة
290 هج