الأخــــــــــلاق
المشـــاركون:
الأخلاق بين النظرية والتطبيق
عبدالله الرستم
في العلاقة بين الدين والأخلاق
فاخر السلطان
الأخلاق أم القانون؟
طارق النزر
الاختلاف الايدلوجي و الثقافي واثره
على الاخلاق
رياض السليم
الاخلاق ابتكار إنساني أسس لتطور
الحضارات
مهدي الرمضان
العقلانية والأخلاق
فاخر السلطان
اﻷخلاق وردود اﻷفعال
عبد الله محمد بوخمسين
صاحبي البوذي و صديقي
المسلم
يحيى ناصر
الأخلاق بين النظرية والتطبيق
(1)
قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيراً) [الأحزاب: 21].
لعل الظرف الزماني والمكاني الذي عاشته العربُ قبل انبلاج نور
الإسلام كان في منأىً عن بعض الأخلاقيات العامة، وذلك بوجود بعض السلوكيات التي
يرفضها العقل البشري الإنساني والإسلامي، كوأد البنات، الطواف حول الكعبة عراة،
انحسار الأمان الاجتماعي، انتشار الزنا، وشرب الخمر، وغيرها من المسائل التي يصعب
حصرها، وهذا مما حدا بالدين السماوي الجديد (الإسلام) أن يُلغي الكثير من
التشريعات الاجتماعية المتواجدة عند القبائل العربية، ويأتي بالبديل الذي فيه
صلاحٌ للفرد والجماعة، ويُبقي على بعض التشريعات التي تتوافق مع طبيعة المجتمع
البشري.
🌹فالدين الإسلامي قبل كل
شئ دينٌ أتى لينظّم الحياة الإنسانية بجميع محطّاتها وأشكالها، وذلك لتأمين جميع
وسائل المعيشة الحضارية بدءاً من الأمان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وحتى
الروحي المتمثل في الإيمان بالدين الإسلامي وغيرها، وذلك لتنطلق مسيرة الحضارة
البشرية نحو الأمام بشتى صورها وأشكالها، وهذا الانطلاق بدوره سيقضي على كلِّ شئٍ
له أثره السلبي على تلك المسيرة الإلهية.
(2)
🌹ولعلّ المقارنة بين
وقتنا الراهن وبين تعاليم الدين الإسلامي أمرٌ مهم، لنرى أن هناك ثمّة مشاكل
جوهرية تنطلق من عدم فهم واستيعاب الأطروحة الإلهية في هذا الصدد، فرغم وجود أنظمة
متعلقة بجميع أصعدة الحياة في وقتنا الراهن، إلا أن تلك الأنظمة والتشريعات التي
أُطلق عليها أنها مستقاة من الشريعة الإسلامية هي في الواقع غير ذلك، وذلك لغياب
الكثير من الضوابط المتعلقة بهذه التشريعات، إما في صناعةِ النظام أو تطبيقه أو
وجود أية عوامل أخرى من شأنها الإطاحة بهذه التشريعات المستقاة من الشريعة
الإسلامية، رغم وجود بعض التشريعات المستقاة من الشريعة الإسلامية. ناهيك عن أن
بعض تلك التشريعات تحتاج إلى قراءة جديدة بين فترة وأخرى لوجود القصور في فهم
الإنسان بمتطلبات العصر، فمتطلبات العصر ليست مادية فحسب!! بل هي متطلبات روحية
وذوقية، إضافة إلى ذلك أنه لكلِّ عصرٍ متطلبات تتلاءم مع طبيعة البيئة المتغيرة
بتغيّر الزمان، والإسلام يكفل هذا التغيّر في أنظمته وتشريعاته.
🌹فبالنظر إلى واقعنا
المعاصر، نرى أن ثمّة مشاكل جوهرية تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، لنكتشف مدى
الجُرم الفظيع الذي نرتكبه بحق انتماءاتنا، فالانتماء له حقوقه وضوابطه، وأدنى
الحقوق عدم تشويه ذلك الانتماء بالتصرفات العشوائية التي لا تمت إليه بصلة. ولعلَّ
من أهمَّ القضايا في ذلك (المسألة الذوقية) التي لم تَغِبْ عن ذهنِ المشرِّع لهذا
الدين العالمي، وقبلَ كلِّ شئٍ إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم طبّق ما أَمر
به أصحابه، ليكون خيرَ قدوةٍ في هذا الصدد، ومع ذلك فإننا ابتعدنا عن الكثير من
الجوانب الذوقية والمبادئ الرسالية التي أَمَرَ بها صلى الله عليه وآله وسلّم،
مثل: حقوق كل فرد يشترك معنا في هذا العالَمْ كالجار والابن والوالدين والزوجة
والخادم ... الخ، وكذلك الآداب العامة التي لها الأثر الإعلامي الكبير في نشر
الإسلام، والأحداث التاريخية والنصوص القرآنية والنبوية التي تحثُّ على ذلكَ
كثيرة، والتي كان لها الأثر الكبير في إدخال الكثير من غير المسلمين إلى الإسلام
بدون أيِّ جُهْدٍ يُذكر سوى تطبيق تلك الأدبيات العامة والتركيز على الجانب الذوقي
الذي يحمل جانباً رسالياً، شريطة وجود آليات تتلاءم مع الأجواء المطروحة
فيها تلك الأدبيات.
(3)
مما يؤسف له حقيقة هو: أن سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لم
يتجسّد في حياتنا العامة سوى القليل الذي هو شكليٌ يفتقد إلى الإيمان به، والأسباب
في ذلك كثيرة، فها نحن نرى الكثير من الناس الذين لم يحفظوا من الإسلام إلا اسمه
ومن القرآن إلا رسمه صنعوا فجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق، ففي الوقت الذي نحن
بحاجةٍ ملحّة إلى تطبيق تعاليم الدين الإسلامي، فإنّا نرى في سلوكياتنا تجاوزات
أخلاقية تخالف الذوق العام والخاص، بدءاً من المنزل ومروراً بالشارع وانتهاءً
بالعمل، وما أكثر تلك السلوكيات التي يمارسها بعض المسلمين وفيها مخالفة للشريعة،
منها على سبيل المثال:
- امتهان الأماكن المقدسة كالمساجد والحسينيات ومراقد الأئمة عليهم
السلام من رمي المناديل والقراطيس والدخول إليها بملابس متسخة، أو غير لائقة.
- التبوّل في الشوارع على مرأى من المارة، دون وجود ذرّة من الاحترام
لسالكي الشوارع والمستفيدين من خدماته.
- رمي القاذورات في المرافق العامة، كالحدائق وحمامات الأسواق ومحطات
الاستراحة.
- تطويل الأظافر بدون الحفاظ على نظافتها.
- رمي بقايا الأكل في المزابل.
- البصق في كل مكان دون احترام حقوق الآخرين.
وغيرها من التصرفات الكثيرة التي لو رآها المؤمن بعين البصيرة
لَمَاتَ كَمَداً. كلُّ ذلك تحت مسمّى الحرية الشخصية، وأن الدولة والمتمثلة في
قطاع (البلدية) متكفل بذلك، غير عابئين بالمبادئ التي اختطّها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلّم، وكأنه أُرسل إلى قومٍ اندثروا من على وجه الأرض، في حين أن هذه
المسائل من الأمور الذوقية التي طرحها الإسلام للتطبيق، وليست خاصة به صلى الله
عليه وآله وسلّم أو خاصة بزمانه!!، ففي الجانب الآخر حارب الإسلام التصرفات التي
تسئ إليه بشدّة لمخالفتها الصريحة للأطروحة الإلهية.
(4)
🌹يضاف في هذا الصدد بأن
العِلْمَ الحديث أثبتَ أنَّ مثلَ هذهِ السلوكيّات مِنَ المسائِل التي تؤثّر على
صحّة البيئة، وهي سببٌ كبيرٌ في نقل الأمراض وانتشارها، لأنها تحمل فضلاتِ الإنسان
التي لا يرغب بها الجسم، ولذا لو بقيت في الجسمِ لأضرّته، ولذا ورد عن الإمام
الصادق عليه السلام حول ما يتعلق بالبصقِ بما معناه: (إكرام البصقةِ وأدها)، وهذا
سلوك مارسه كثيرٌ من آبائنا إذا أراد ذلك، حيث يردم البصقة بالتراب، وكأن المسألة
كما ذكرنا ذوقيّة، يستقبحها العقل البشري والعُرف الاجتماعي، وحتى التبوّل في
الأماكن العامة، فإن هناك بعض الحيوانات يحفر حفيرة ليتبول فيها ويردمها بالتراب
كما رأيتُ ذات مرّة.
🌹ولذا فإن القرآن الكريم
خاطب النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بآيات كثيرة تُشيد بأخلاقه وسلوكه، مثل
قوله تعالى: (وإنّك لَعَلَى خُلُقٍٍ عَظيم)، وقال هو عن نفسه (أدّبني ربي فأحسن
تأديبي) وكذا قوله: (أنا أديب الله وعليٌ أديبي)، وقرر ذلك أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام في قوله: (ولقد كنتُ أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع
لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به)، مما يدل على أنه صلى الله عليه
وآله وسلم كان خُلُقُهُ القرآن كما ورد في بعض النصوص.
🌹ثم إن هذه المسائِل
التي أَمَرَ بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وطبّقها وعلّمها أمير المؤمنين
عليه السلام وأصحابه، دلالة على أنها تشكّل قيمة من قيم الدين الإسلامي، وآثارها
عظيمة على جميع أصعدة الحياة الشخصية والاجتماعية، وإلا لما أُمرنا بالامتثال
لأوامره والابتعاد عن نواهيه، ولذا كان النداء القرآني لمن أراد التأسي والاقتداء
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )لمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ(، وبطبيعة الحال أن من يرجو الله واليوم الآخر عليه أن يسلك هذا النهج
النّبوي، ليحقق شيئاً من كمال الشخصيّة على الجانب الأخلاقي، وما أكثر تلك الأمور
التي تساعد على تهذيب النفس وانتشالها من ممارسة رذائل الأمور.
(5)
🌹الأخلاق عادة أم مبدأ؟!
لعل مسألة الأخلاق يعتبرها البعض من المسائل التي استُهلكت في الطرح،
بينما هي غير ذلك، والدليل أن تلك الممارسات الخارجة عن الذوق العام مازالت تشكّلُ
ظاهرةً في مجتمعاتنا الإسلامية، والمطلوب أننا بحاجةٍ إلى مُعَالجةٍ مابنا من
أمراض اجتماعية ليتسنى لنا الحصول على بعض درجات الكمال والرُّقي الذاتي. مسألةٌ
مهمّةٌ حَريٌ بأن نقفَ عليها وهي: هل أن الأخلاق نصنّفها ضمن العادات والأعراف
السلوكية الاجتماعية، أم أنّها نظامٌ قَبَليٌ، أم مبدأ؟!
🌹في الحقيقة إنَّ
الأخلاقَ ليست نِظَاماً قبلياً أو عادةً وعرفاً اجتماعياً، بل إنّها مبدأ وقيمة
وإن أخذت صبغة العُرف الاجتماعي، لأن كثيراً من العادات والأعراف لا تشكّل قيمة
إلا للشخص نفسه، وأن الأطراف الأخرى لا يعترفون ببعض العادات والأعراف إلا ما
يتناسب مع الذوق العام، على خِلافه حينما تكون الأخلاق مبدأ فإنها ستكون قيمة
حضارية، وستسري إلى مجتمعات أخرى وتؤثر فيهم، خصوصاً إذا كانت طريقة تبليغها بعيدة
عن أسلوب القسر والإجبار.
🌹ولذا يجب أن نلتفت إلى
مسألة في هذا الصدد أن ما نعلّمه أبناءنا من أخلاق يجب أن يكون بأسلوب الصناعة
وليس بأسلوب التلقين والعُرف الاجتماعي، لأن التلقين سُرعان ما تذروه الرياح مع
تقدم الطفل في سنيّ عمره، وكم هو جميل أن تكون الصناعة مبنيّة على أسس حضارية
لتكون قيمةً يحترمها القاصي والداني، ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم
وأهل بيته المعصومين عليهم السلام لم يكونوا ليتعاملوا مع الناس من حيث أن هذه
عادتهم اعتادوا عليها في التعامل معهم!! بل إنهم يحملون ذلك الخُلُق الرفيع بين
جوانحهم كقيمة من قيم النفس والحياة التي يجب الحفاظ عليها وإبلاغها إلى الناس
بطريقة حضارية، وليس بأسلوب الفرض والإكراه.
(6)
🌹لماذا لا نطبّق ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلّم؟!
من خلال الحديث السابق، نرى أن ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وآله
وسلّم في وادٍ، وما هو موجود في وقتنا الراهن في وادٍ آخر، مما يمكن تفسير ذلك أن
هناك فجوةً كبيرةً بين الأطروحة والتطبيق، والسبب في ذلك يكمنُ في تساهل البعض مع
هذه المسائل، علماً أنّ تطبيقها لا يكلّفُ ثمناً باهضاً، ولا يحتاج إلى جهدٍ يُذكر
سوى محاولة تمرين النفس وترويضها على مثل هذه الأمور والعائدة على ذات الشخص
بالنفع العميم، خصوصاً إذا كان القيام بهذه السلوكيات ينبع من القلب وليس عادةً
شخصية لتحقيق بعض المصالح على المستوى الاجتماعي، لأن في ذلك تحقيق رضا الله عز
وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم، ومن كان جهاده الأخلاقي لله سبحانه
وتعالى، فإن الله يعطي الإنسان على قدرِ نيّته والحسنة بعشر أمثالها.
عبدالله الرستم
في العلاقة بين الدين والأخلاق
(1 – 2)
حينما تطرح بعض الأسئلة المرتبطة بالعلاقة بين الدين والأخلاق،
بالرغم من أصالة تلك العلاقة في جميع الأديان، فإن سؤالا يطرح نفسه هنا وهو: هل
إيماننا بالله هو انعكاس لارتباط الله بالأخلاق، أم أن الله يتجاوز هذا الأمر؟
بمعنى آخر: هل الله يحمل أوصافا وفضائل أخلاقية، أم أنه يتجاوز في صفاته
تلك الفضائل؟ وهل إرادته تتبع القيم والفضائل الأخلاقية، أم أن القيم والفضائل
الأخلاقية هي التي تتبع إرادة الله؟
في نظر الكثير من الباحثين والمفسرين، تعتبر الأخلاق أحد نتاجات
الدين، وقد تعتبر جوهر الدين لدى البعض. لكن تصرفات غالبية كبيرة من المتدينين، تؤكد
وجود هوة واسعة بين تنفيذ تعاليم الدين (تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية) وعلاقة
ذلك بتحقيق الفضائل الأخلاقية. والأمثلة على عدم التزام المؤمنين المسلمين بتلك
الفضائل وعدم الالتفات إليها حين السعي لتحقيق ما جاء في فهمهم للشريعة، عديدة.
والسؤال الذي قد يطرح مجددا هو: هل مخرجات تنفيذ أحكام الشريعة يجب
أن تكون أخلاقية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فهل الشريعة هي التي "تتبع"
الأخلاق، أم أنها "تؤسس" للأخلاق؟
هناك رأيان مختلفان حول الموضوع. الأول يرى أن تنفيذ أحكام الشريعة
لابد أن يسير بموازاة تقيّد المؤمنين بالأسس والفضائل الأخلاقية المسيطرة على واقع
الحياة وعلى ظروفها، وأنه يجب ألا يتم القفز على ذلك الواقع وعلى تلك الظروف.
بمعنى أن أخلاق المجتمع مرتبطة بالواقع وظروفه لا العكس، وأن تنفيذ أحكام الشريعة
يجب أن يسير في إطار احترام الواقع والظرف الاجتماعي.
أي أن الأطر الأخلاقية الواقعية المسيطرة على المجتمع هي التي يجب أن
تحدد ما يجب أن ينفذ من أحكام، وكيفية التنفيذ، وما يجب أن يعاد فهمه من أجل أن
يلائم الواقع. بمعنى أن الشريعة هي التي يجب أن "تتبع" الأخلاق.
الرأي الثاني يرى أن تنفيذ أحكام الشريعة غير مرتبط بأخلاق المجتمع وظروفه،
بل لابد من تنفيذها تحت أي شرط، وأنها - أي الأحكام - لا تخضع لأمر الواقع وأخلاقه
وشروطه، كخضوع المجتمعات في الوقت الراهن لظروف المفهوم الأخلاقي الحديث لحقوق
الإنسان. فتنفيذ أحكام الشريعة هنا "يؤسس" للأخلاق.
(2 – 2)
حين ناقش مجلس الأمة في الكويت قضية حقوق المرأة السياسية، لم يدر في
خلد الرافضين لتلك الحقوق من نواب وشخصيات دينية وسياسية وإعلامية وجمعيات أهلية،
ضرورة احترام الثقافة الأخلاقية الحقوقية المسيطرة على الواقع الاجتماعي في الكويت
وفي العالم أجمع، وكان هدفهم منصبا على تنفيذ فهمهم لأحكام الشريعة الخاص بالمرأة
ورفض حقوقها السياسية، حتى لو فُرض الفهم الحقوقي الحديث نفسه على الواقع.
وفي العراق سعى أنصار الرأي الثاني إلى تحقيق أهدافهم الشرعية، حتى
لو أدى ذلك إلى إزهاق الأرواح وتقسيم المجتمع وجره إلى حرب أهلية.
وفي العديد من الدول يفتح رجال الدين أبواب الاستبداد المناهض لأبسط
مفاهيم الأخلاق، بشتى أنواعه السياسي والاجتماعي والديني، من أجل تنفيذ أحكام
الشريعة، واضعين نصب أعينهم أنه من خلال ذلك يستطيعون "تأسيس" أخلاق
بديلة لتلك الموجودة في الواقع.
إن أنصار الرأي الأول يعتقدون أن الشريعة التي يجب أن تفرض رأيها على
الواقع، هي شريعة العقل، التي تستلهم أفكارها من العقل الجمعي المسيطر على الحياة
الراهنة، وأن هذه الشريعة سوف تنتصر على شريعة النقل (شريعة أنصار الرأي الثاني)،
التي تستلهم أفكارها من التاريخ غير مبالية بظروف الواقع وتطوره وتغيره. إن هؤلاء
يعتقدون أن العدالة، في المسائل المتعلقة بالواقع الاجتماعي وظروفه، لها أولوية
على الشريعة. بمعنى أن تنفيذ "الأحكام الأخلاقية العادلة" أهم من تنفيذ
"الأحكام الشرعية التاريخية"، وأن الرجوع إلى العدالة من أجل تنظيم
حياتنا الاجتماعية يسبق الرجوع إلى الشريعة.
فانطلاقا من مفهوم العدالة، يجب الغوص في الشريعة لاستخراج أحكامها
التي تحقق العدل في المجتمع. ومن دون بوصلة العدالة فإننا قد نصل إلى فهم لأحكام
الشريعة يخالف الأخلاق العامة المسيطرة على واقعنا الاجتماعي.
أنصار الرأي الأول يعتقدون أن حقوق الإنسان تتقدم في الأهمية على
حقوق الله. بمعنى أن الدفاع عن حقوق الإنسان يؤدي بالضرورة إلى رضا الله، وأن
الإضرار بحقوق الإنسان وفق الواقع الذي نعيش فيه يؤدى بالضرورة إلى سخط الله وعدم
رضاه. فالأخلاق المتعلقة بحقوق الإنسان تأتي، في نظرهم، في مرتبة أعلى من الأخلاق
المتعلقة بحقوق الله. لماذا؟ لأن احترام القيم الإنسانية هو مقدمة ضرورية للإيمان
بالله أو التديّن، فهي - أي القيم الإنسانية - تعتبر منبع الأخلاق في العالم
الحديث، وبالتالي هي إحدى الطرق نحو فهم ديني أعمق لله.
فالتدين، أو بناء علاقة روحية عميقة مع الله في إطار ظروف الحياة الراهنة،
من دون أن يسبق ذلك احترام حقوق الإنسان قد يتشابه مع أي مسعى معنوي غير واقعي لا
يمت بصلة لظروف الحياة ولا يستطيع تحقيق أي قيمة أخلاقية فيها.
فالتدين الذي يتشكل في الحياة الجديدة، أو في ظل الحداثة، لابد أن
تكون له أهداف متعددة من ضمنها تحقيق الفضائل الأخلاقية الواقعية، ومن تلك الفضائل
احترام حقوق الإنسان وفق منظورها الحديث. في حين أن التدين الذي لا تكون محصّلته
تحقيق تلك الفضائل، لن تكون مخرجاته إلا سلوكا تاريخيا لا يخدم ظروف الحياة، وفي
أغلب الأحيان قد يشكل تهديدا للأمن الاجتماعي.
فاخر السلطان
الأخلاق أم القانون؟
في حديثنا عن الأخلاق فإن أول مفهوم يتبادر إلى الذهن هو الفضيلة،
بحيث لا نتداول مصطلح الأخلاق بما تحمله من رذيلة أيضا..
لذلك سيتم الحديث عن الأخلاق في هذا المقال على نفس المفهوم المعروف
بين الناس، بربطه حصرا على الفضيلة أو الحميدة..
وكما أنها عنوان عريض ومتشعب ودسم، فإنها تتقاطع أيضا مع غيرها من
العناوين الكبيرة والعريضة والمتشعبة، وأبرزها الدين والقانون، وسأحاول التركيز في
مقالي على بعض النقاط المبدأية البسيطة والعامة في علاقة الأخلاق مع القانون..
يقول علماء الأخلاق بأنها أشمل وأوسع من القانون، حيث أنها تتعاطى مع
علاقة الفرد بوسطه ومجتمعه والأشخاص من حوله وكل ما يتعامل معه، بالإضافة إلى
علاقته وتصرفاته مع نفسه وذاته ودينه وربه، ولا يختلف معهم في ذلك علماء القانون،
فهم يرون فعلا اهتمام القانون بالعلاقات العامة والظاهرة أكثر من بعض التفاصيل
الشخصية والخاصة الغير معني بها، ويمكن القول بأن القانون معني أكثر بمبادئ العدل
والتنظيم التي تؤثر على المصلحة العامة، ومعاقبة من يخالفه بفرض جزاء يتناسب مع
حجم وحدود المخالفة لذلك القانون، بينما الأخلاق معنية أكثر بمبادئ الإحسان
والسمو، ولا يترتب على مخالفتها جزاء قانوني، وقد تتقاطع القاعدة الأخلاقية مع
القانونية، أو العكس، وقد لا تتقاطع..
لذلك نلاحظ أن هناك قواعد أخلاقية لا يحاسب القانون مخالفيها، فمعلوم
أن الكذب عادة أخلاقية سيئة تتعارض مع الصدق والقيم الحميدة، ومع ذلك فالقانون لا
يحاسب الفرد على كذب حديثه ومخالفته لقواعد الصدق، واختلاقه للروايات والأحداث
الكاذبة اما بدافع تلميع صورته بين الناس أو لمجرد الكذب، كذلك الجبن وفقدان
الشجاعة، فهو أمر مذموم أخلاقيا لكنه غير معني القانون بمحاسبته طالما أنه لا يضر
المصلحة العامة، بينما يتدخل القانون بمحاسبة الكاذب في شهادة الزور أمام المحكمة
أو في قضية ما يكون لكذبه أثر يترتب عليه حكما فيها، فهنا تقاطعت القاعدة
الأخلاقية مع القانونية، وكذلك الجبن وفقدان الشجاعة في الدفاع عن الوطن أو إنقاذ
حياة شخص ما، كان يمكن إنقاذه، فقد يتدخل القانون في ذلك..
وبالمقابل هناك قواعد قانونية لا دخل للأخلاق بها، مثلا قواعد
المرور، فقطع الإشارة أو السير بالشارع بعكس الإتجاه والسرعة الزائدة وغيرها من
مخالفات، يترتب عليها جزاء قانوني وإن كان المخالف وحيدا أو لم يؤذي أحدا
بمخالفته، بينما أخلاقيا لا علاقة لكون السير بالمسار الأيمن أو الأيسر، أو لتحديد
جهة القيادة علاقة أخلاقية في ذلك، لا سيما إن كان الطريق لايسير فيه أحد سوى هذا
المخالف..
ومع ذلك لا يمكن الإعتماد على الأخلاق بلا قانون، ولا العكس،
فالعلاقة بينهما وطيدة ومتلازمة ومتكافئة غالب الأحيان..
لذلك قال الفقيه القانوني ريبير (Ripert) أن القاعدة الأخلاقية تحاول دائما أن
تصبح قاعدة قانونية، وأيضا قال الفقيه جوسران (Josserand) أن القاعشدة القانونية هي مستمدة في أغلبها
من الأخلاق.
طارق النزر
الاختلاف الايدلوجي و الثقافي واثره
على الاخلاق
(1)
عند دراسة الاخلاق لا يمكن فصلها عن الفلسفة و الاجتماع و السياسة
لانها تترك اثرا في سلوك الانسان وطريقة تفكيره ونظرته للامور.
فحسب المدرسة الفكرية و الفلسفية ( الايدلوجيا ) التي يعتقد بها
الانسان ستتبلور علاقاته و سلوكياته تجاه الآخرين وفقها.
وهذا ما سيتضح عند الوقوف على المدارس الفكرية الحداثوية ولكن قبل
هذا نذهب الى المدارس الفلسفية القديمة لان المدارس الحديثة هي امتداد للقديمة وان
كان بلون آخر لان الفكرة نفسها وان اختلف السياق والاسلوب وطريقة الطرح.
وسيكون التركيز على مناهج التفكير العامة دون الولوج في التفاصيل.
للاخلاق ثلاث مناهج قديمة
منهج عقلي صرف وهو منهج الفلسفة اليونانية وتعتمد على فكرة ان
الانسان له ثلاث قوى عقلية و سبعية (غضبية) و شهوانية وللحصول على الاخلاق يجب
تحكيم العقل على الشهوة و الغضب.
وهذه الفكرة يطرحها ايضا افلاطون في السياسة في تصوره لجمهوريته التي
ان الفلاسفة و العلماء وجودهم بمثابة العقل،في الدولة وبالتالي يجب ان تكون لهم
القيادة.
منهج حسي وهو منهج الثقافة العربية فالاخلاق تعتمد في نظرهم على
الكرم والايثار والفروسية والشجاعة و التضحية و السمعة الطيبة والغيرة والخ
ويحظى السمع في الثقافة العربية الجاهلية و المعاصرة
بنصيب الاسد فالعربي عادة ما يربط اخلاقه برأي الآخرين فبعض
الاخلاقيات لا يرى لها قيمة ولكنه يلتزم بها من اجل السمعة ولو صار في بيئة معزولة
عن مجتمعه لم يلتزم بها لذلك تحظى الكلمة لديهم بقيمة أكبر مما لدى الامم الاخرى
لهذا اهتمام بالشعر و الادب و البيان
وهذا ما يجعل شعب يصعب السيطرة عليه وكثير التمرد و لا يأمن جانبه
لان الشعب مجرد ان يشعر بضعف السلطان تغير ولائهم عنه لمن هو اقوى منه.
المنهج الثالث منهج روحي صوفي وهو منهج معظم الفلسفات الشرقية
القديمة كالفلسفات الفارسية و الهندية و الصينية بتنوعاتها
وهذا المنهج يعتمد مخالفة النفس وتهذيبها و الرياضات الروحية وتنطلق
الافكار الاخلاقية لديهم من انكار الذات والاعراض عن الملذات و توقير الكبار و
طاعتهم.
فتجدهم يبالغون في احترام الاب وكبير السن و الاستاذ والعالم و
السلطان .
ولذلك نرى ملوك الشرق وخصوصا الفرس عبر التاريخ يتميزون بفخامة
وبطاعة مطلقة ولا يتخلى عنه الرعايا ابدا ولذلك ملوك الفرس كانوا الاقوى عبر
التاريخ خصوصا السلالتين الاولى و الثانية اللتين حكمتا قبل التاريخ وكان يسمون
بشاهنشاه اي ملك الملوك
وما هذا الا نتيجة الطاعة للسلطان و التي كانت تعتبر اساس
الاخلاق وسمة الانسان المتحضر .
وهذه المناهج الثلاث الاساسية عادت لتبرز على السنة فلاسفة
اوربا في عصر التنوير
(2)
عند دراسة الاخلاق يجب ان نميز بين البحوث النظرية الفلسفية
التي تؤسس لقيام منظومات اخلاقية وتستمد قوتها عادة من المشاريع السياسية
مثل المنظومة الاخلاقية الشيوعية فرضتها الاحزاب والحكومات الشيوعية
وبين دراسة السلوكيات و الممارسات القائمة على ارض الواقع وتفسيرها.
وكذلك يجب التفريق بين الآراء الفلسفية في الاخلاق وبين المناهج
الفكرية لدراسة الاخلاق.
وتقدم الاشارة الى المناهج الفكرية الاساسية الثلاثة و هناك مناهج
اخرى يمكن توليفها بالدمج بين منهجين او اكثر
اما الآراء فهي كثيرة وقد تخضع لضابطة منهجية و قد لا تخضع.
فقد طرح في الفلسفة القديمة آراء كثيرة منها ان.اللذة هي اساس
الاخلاق ومنها ان الفضيلة هي الاساس ومنها الحب ومنها العقل ومنها المنفعة
ومنها من انكر الاخلاق.
وفي الفلسفة القديمة كانت العلوم تقسم العلوم الى نظرية كالرياضيات
والطبيعيات والى عملية كالسياسة والاخلاق.
والعقل العملي هو المسؤول في دراسة العلوم العملية.
وقد اختلف الفلاسفة الهنود البراهمة و اليونانيين و المسلمين و
الغربيين المتأخرين في مدركات العقل العملي هل هي ثابتة او متغيرة.
يعني مثلا هل الكذب قبيح دائما في فطرة كل البشر و يرى قبحه كل
الناس.
او انه لا يوجد قبح ذاتي للكذب ولكن هذا من التأديبات الصلاحية التي
تقوم بها المجتمعات لحفظ نظامها والفطرة و الوجدان والعقل لايرى قبحا في
الكذب الا اذا حمل معه ضررا او شرا.
وقد اختلفوا ايضا في الضرر هل هو شخصي ام نوعي وهل هو مادي او معنوي؟
واختلفوا في الشر هل له وجود ام لا واختلفوا هل الانسان مطبوع
على الخير ام مطبوع على الشر ام كليهما؟
واختلفوا في الخير هل هو السعادة ام هل هو راحة الضمير ام.في تحقيق
المنفعة او في تحقيق العدالة او في تحقيق الشبع وتوفير الاحتياجات اللازمة.
والخ من آراء فلسفية تترك اثرا كبيرا في تشكل منظومة اخلاقية وفي
صياغة السلوكيات و الاخلاقيات.
ونأتي الآن للحديث عن ابرز المدارس الفلسفية الحديثة في اوربا و التي
تبلورت في عصر التنوير الاوربي وخصوصا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر الذي
اسفر عن ثلاث ثورات عظيمة وقد حملت كل ثورة منظومة فكرية اخلاقية مختلفة عن
الاخرى.
التنوير البريطاني وسمته الثورة الصناعية واخلاقيا يعرف
واخلاقيا يعرف بتنوير الفضيلة و الحفاظ على العادات و التقاليد
التنوير الفرنسي وسمته الثورة الشعبية واخلاقيا هو ثورة على
الماضي وعلى العادات و التقاليد.
التنوير الامريكي وسمته ثورة الاستقلال واخلاقيا هو ثورة قانونية
تقنن الحياة والاخلاق هو الالتزام بالقانون الذي يحقق المنفعة للجميع ويعرف
بالفلسفة البراجماتية.
التنوير البريطاني
لعب في تبلوره عدة عوامل مهمة اهمها المذهب البروتستاني
الاصلاحي الذي اعلنته بريطانيا مذهبا رسميا تمردا على سلطة البابا مما وفر مناخا
علميا تمركز على التجربة و الصناعة و التجارة تزامن مع تدفق الاموال بغزارة من
المستعمرات فعاش الشعب البريطاني رخاء ونماء لم يتوفر له مثيل بين الشعوب
الاوربية
وساعد على الازدهار والنماء ايضا عدم وجود سلطة مستبدة فقد فرض نبلاء
بريطانيا شروطا ودستورا على الملك.
هذه الاجواء ساهمت في نمو وتبلور المذهب الحسي في بريطانيا الذي نمى
وترعرع ببطء متأقلما ومتعايشا مع بيئته وتراثه.
فهذا المذهب في بريطانيا نظر الى العادات و التقاليد الانجليزية
العريقة مصدر قوة و تميز ولذلك نجد النبلاء في بريطانيا لازال يحتفظون بالقابهم و
القانون يحفظ لهم هذا التميز ولكن الابن النبيل يتساوى مع غيره في الدراسة و
الوظيفة حسب الكفائة.
وحتى في الدستور البريطاني نجد كثير من تفاصيل الدستور غير مكتوبة
وتعتمد على الاعراف و التقاليد في تفسيرها.
التنوير الفرنسي
انطلق التنوير الفرنسي بمثالية عالية معتمدا على العقل كمصدر اساسي
للمعرفة مع ديكارت الذي يعتبر ابو الفلسفة الحديثة الذي كان مثاليا جدا في افكاره
ومتخذا من الرياضيات قاعدة اساسية للتفكير العقلي وفيلسوفا ميتافيزيقيا مجددا
ومتدينا ملتزما بالمذهب الكاثوليكي.
وازدهرت الفلسفة المثالية في فرنسا وتأثر بها الآداب والعلوم و
السياسة حتى اصطدمت هذه المثالية بواقع معاكس عندما استبد الملك وتمادى في الظلم
وساعده النبلاء في ذلك ووقفت الكنيسة لجانب الملك عندها وقعت الثورة الشعبية
يقودها الفقراء و المستضعفين و بعض الحركات السرية لتثور ليس ضد الملك فحسب بل ضد
كل الاعراف و التقاليد المرتبط بعصر الملكية فهي ثورة ضد النظام الاقطاعي و الطبقي
وثورة ضد السلطة الدينية وهرميتها وثورة ضد كل الانماط الثقافية و الفكرية السائدة
آنذاك.
وصار الفلاسفة الفرنسيين يبحثون عن نظم فكرية واخلاقية وسياسية
جديدة.
بحيث صارت الثورة الفرنسية ملهمة للشعوب الأخرى ومبشرة برؤى وافكار
فلسفية جديدة
ولذلك ارتبطت الحداثة و التنوير الفرنسي بالفكر و الثقافة و
الادب كما ارتبط التنوير البريطاني بالعلم التجريبي و الصناعي.
التنوير الامريكي
كانت امريكا مستعمرة بريطانية وكانت في نظر البريطانيين الارض
الجديدة التي ستتحقق عليها الاحلام حتى لاحظ بعض الضباط البريطانيين الكبار القوة
الاقتصادية المتزايدة للمستعمرات والتي تتدفق بغزارة لبريطانيا ولاحظو ضعف الحضور
العسكري البريطاني فيها فخططوا للاستقلال وتأسيس حكومة جديدة فتية تطبق فيها احدث
النظريات الفكرية و السياسية وهو مجتمع حديث ليس له ماضي وموروث يشكل له ازمة
وبالتالي يسهل تشكيله كأمة في نظام ليبرالي ديموقراطي راسمالي يكفل الحريات و
يقننها معتمد على النفعية البرجماتية
فالقانون هو الذي يشكل النظام الاخلاقي ويفرضه.
وهناك ايضا التنوير الالماني الذي استمد ملامحه من الفلسفة النقدية
التي ارسى دعائما كانت واوصلها الى ذروتها هيجل
والفلاسفة الالمان هم من نظر فكريا وفلسفيا للحداثة والتنوير العقلي.
والذي ميز الفلسفة الالمانية هي انها تعتمد على العقل و الحدس
(الروح) كمصدرين اساسيين للمعرفة
فنجد كانت على سبيل المثال يعتبر من اكبر المنظرين للحداثة و عندما
ولدت مرحلة ما بعد الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت افكار كانت من اهم
التنظيرات لمرحلة ما بعد الحداثة.
وذلك لان التنوير الفرنسي والبريطاني و الامريكي اعتمد على مرجعية
العقل الجافة و لم تعتني بمرجعية الروح و الضمير و الوجدان.
وتمادى غرور العقل الحداثي حتى اوقع بالانسانية كارثتين عالميتين الحرب
العالمية الاولى و الثانية وهذا ما شكل صدمة للعقل الاوربي الحداثي الامر الذي
جهلهم يقومون بمراجعات نقدية لمفهوم العقل النظري الصرف و التحول الى الاهتمام
بالعقل النظري لتولد مرحلة ما بعد الحداثة التي تميزت بعناية اكبر لمفهوم
الانسانية و الوجدان و الضمير كي لا تتكر المأساة وهذه ابجديات قد سبق ونظر لها
كانت من خلال نقده للعقل النظري و العقل العملي.
وقد تميزت الفلسفة الالمانية النقدية من ناحية اخلاقية انها اكثر
فخامة و تكاملا من بقية المدارس بالاضافة الى نزعتها الدينية و نزعتها الصوفية
واعتداد فلاسفتها بتاريخهم و قوميتهم وذلك لأن المانيا قديما كانت تعرف برومانيا
المقدسة وكانت لها الزعامة الشرفية على كل اوربا (ونستطيع تشبيهها بالخلافة
العباسية في عصورها المتأخرة تحظى باحترام الملوك الآخرين احتراما لمكانتها
الدينية ومسمى الخلافة ولولا المسمى لقضي عليها بسرعة)
وبقت رومانيا المقدسة معظم القروون الوسطى حتى جاء نابليون واسقط هذه
المملكة
لذلك كانوا الالمان يتحسرون على المانيا ويحلمون باعادة امجادها وهذه
يتضح جليا في افكار هيجل ومن جاء بعده ومن هنا تشكل نظام اخلاقي جديد قوامه
القومية
وجد مثالا واضحا لهذا في ادبيات الفكر النازي وبالخصوص لدى هتلر الذي
يركز كثيرا على الاخلاق بصفتها الطريق الامثل لتنشئة جيل قوي يحافظ على القومية
الالمانية فيرى مثلا للحفاظ على اخلاق الشباب طرح مشروع الزواج المبكر لمحاربة
الزنا وتنشئة جيل محافظ ويشعر بالمسؤولية .
والمدرسة الاخلاقية الاخيرة التي ينبغي الوقوف عليها هي المدرسة
الشيوعية الماركسية و باختصار هي جعلت النظرة الاخلاقية مرتبطة بالاقتصاد و بالشبع
كقيمة اساسية
وحسب النظرية ان الشعب لا يملك بل الحكومة هي من تملك فقط في المرحلة
الاولى وبعد ذلك تكون الملكية مشاعة وتنتفي الحاجة للدولة.
وهذه المدرسة هي الاكثر تشويها وابتعادا عن الاخلاق و الفطرة
وتاريخها هو الاكثر شراسة ودموية في فرض قناعاتها بالقوة.
رياض السليم
الاخلاق ابتكار إنساني أسس لتطور
الحضارات
(1)
بدء، لا يوجد مجتمع او تجمع بشري صغر او كبر يخلو ثقافيا من حزمة من
المفاهيم تؤطر قيٌمه المعيارية ومسلكيات افراده لتحدد المقبول والمتفق عليه او
المرفوض و المنبوذ بينهم جماعيا و ينبثق من هذه الحزمة ميثاق عرفي ينظم العلاقة
بين الافراد يكون غالبا مدعوم بمنظومة ردع أما معنوية على هيئة ضغوط نفسية يمارسها
المجتمع على المتعدي او جسدية يقودها القانون لمن يتجاوز حدوده.
من الملاحظ ايضا ان لبعض الحيوانات التي تعيش في في تكتلات كالقرود و
الاسود و الذئاب وحتى بين الطيور كالغريان و الحشرات كالنمل و النحل أعراف فطرية و
مسلكيات غريزية مجتمعية بسيطة وتسلسل هرمي في السيطرة و القيادة وتوزيع للادوار
بين افرادها تشبه لحد ما تنظيم المجتمع لدى الإنسان بقيّمه و مبادئه.
رحلة الانسان للتحضر والمدنية هي ذاتها رحلة التحول من الاعتماد على
قواه الذاتية في الدفاع عن حياته وحماية حقوقه مذ كان في الكهوف والغابات الى
مرحلة نضوجه حضاريا ولجوئة لمؤسسات إجتماعية مدنية تحل محله وتنظم علاقته إجتماعيا
وتغطي حاجاته للامن وتحفظ حقوقه و تمنع غيره من التعدي عليه.
بدأت الرحله مع بداية تشكل المجتمعات البشرية و انتقال الانسان من
اسلوب جمع الطعام وحياة الصيد لتأمين احتياجه اليومي من السعرات الحرارية للإبقاء
على حياته ليوم إكتشافه زراعة الارض وانتاج طعامه وتخزين فوائض السعرات الحرارية
على هيئة حبوب و منتجات غذائية محفوظة، بدأت مرحله تحضره و حاجته ان ينظم العلاقة
مع غيره لمجموعات تزرع الحقول و تبني القرى و تخلق التكتلات السكانية واصبح لزاما
عليه لتسير حياته بسلاسة وتناغم في هذه التكتلات ان يرضخ لقوانين تحد من سطوته و
تهذب مسلكه لتنظم العلاقة بينه و بين غيره ممن يشتركون معه في تجمع بشري واحد
كبير.
(2)
بدأت هنا نقطة التحول في المسيرة البشرية في تهذيب غرائز البطش
والسطوة والحد من العدوان و تحكيم العقول للسيطرة على تصرفات الافراد و وضعت
القوانين التي تنظم و تجرم المسلكيات المتضادة مع العرف. عندها بدأت مسيرة القيم و
المبادئ في البروز لما لها من تأثير كبير على منح الإنسان الشعور بالأمن و
الاستقرار اللازمين لتطوره و نموه اقتصاديا و حماية أصولة و موجوداته من النهب و
السلب و إنطلاقته عندها في تأسيس حضارات.
بتطور الحضارة و مدنية الإنسان بدأت تزداد حاجته لمزيد من المؤطرات
للمسلكيات الفردية لصالح المنفعة الجماعية و بذا زادت عناصر و مفردات القيم و
المبادئ و أضافت الاجيال المتتالية قيم جديدة و رسخت قيم سابقة . كل ذلك كما تشير
الدراسات الانثروبولوجية قبل ظهور الاديان السماوية.
خلال تلك الحقب و ما تلاها و ما تراكم من مفاهيم يحتم علينا ان نفرق
بين عناصر القيّم و المبادئ و بين ما يعرف بمفردات التقاليد والاعراف التي قد
يظنها البعض من قيم و مبادئ الاخلاق.
المبادئ هي المفاهيم الاخلاقية الاساس والعالمية بطبعها universal والتي تطلب لذاتها والمتفق عليها بين كل البشر بإختلاف خلفياتهم و
اعراقهم و مواقعهم فهي ثابته عابرة للازمان ومنها كمثال: العدل والحرية والامانة و
الحق و الخير والنزاهة و الصدق والكرامة.
و القيم هي مفاهيم متغيرة ببطء وبلا ثبات في الدرجة بحسب اختلاف
الزمن و تفاوت المجتمعات و تقديرها واختلافهم في تقييمهم لها مثل الكرم و الإحسان
و العطف و الرأفة و التسامح ووالانفتاح و التعاون و التكافل والحب.
بينما الأعراف و التقاليد هي مفاهيم محلية الطبع و الصنع وضيقة وتختص
بمسلكيات نمطية تخص بيئة إجتماعية محددة وهي الاكثر دينامكية طبيعيا و الاسرع
تغيرا بين الأجيال المتعاقبة.
اقرت وعززت الأديان
(3)
السماوية كثير مما وجدته قائما من المبادئ و القيم في المجتمعات التي
بعث فيها أنبياء كما هذبت بتدرج ما كان يعد من الرذائل من الأعراف و التقاليد
حينها.
وقد بحث علماء الكلام من المسلمين طويلا في مفهوم الحسن و القبح
للأخلاق و عناصره ربما على أثر إقرار الإسلام لكثير مما وجده قائما من القيم و
المبادئ في المجتمع الجاهلي.
فأثيرت قضية هل الحسن القبح عقليان أم نقليان؟
الجهم بن صفوان قال قاعدته: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود
الشرع " وقال: "إن العقل يوجب ما في الأشياء من صلاح وفساد وحسن
وقبح وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي ثم يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من
حسن بعض الأشياء وقبح بعضها."
ويرى الإمامية و المعتزلة معهم أن "الحسن والقبح في الأشياء
ذاتي ويمكن إدراكه بالعقل ، فالفعل نفسه - بغض النظر عن الشرع - له جهة محسنه
تقتضي استحقاق الفاعل مدحا وثوابا أو جهة مقبحة تقتضي استحقاق فاعله ذما
وعقابا."
بينما يرى الاشاعرة " القبيح مانهي عنه شرعاً والحسن بخلافه ولا
حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها".
وقد جاء الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بسيرته و بما
اخرجه من قيم و مبادئ إسلامية في "الصحيفة السجادية" و "رسالة
الحقوق" مما يعد منهج متكامل للحياة يجسد الاخلاق و قيّمه كما جاء به
الإسلام.
و من فلاسفة الغرب كان جيرمي بانثام Jeremy
Bentham
الفيلسوف و المصلح السياسي الانجلزي في القرن الثامن عشر قد وضع اسس ما يعرف
بفلسفة "المنفعة في الأخلاق " Utilitarianism و تتلخص في مقولة: "مقياس الاخلاق ومعيار
الصح و الخطأ في المجتمع يقوم على مبدأ تحقيق اكبر قدر من المتعة (السعادة الخالية
من الألم) لاكبر عدد من الناس" .
لا يقر بانثام بالواجبات الاخلاقية ويعتبرها مفاهيم يحددها
القانون.
كما ساهم جون ستيوارت ميل John Stuart
Mill
فيلسوف الليبرالية و تلميذ بانثام أيضاً في الدفع بفلسفة المنفعة في الاخلاق
التي كان لها وقع و تأثير واضح في الفقه السياسي في المجتمعات الغربية في القرنين
الماضيين.
كما اعتبر الفيلسوف الالماني إيمانويل كانت Immanuel
Kant
إن الإنسان ذو عقل أخلاقي عملي. وأن الاخلاق تنبع من إحساس الإنسان بواجبه وإتباعه
للمبادئ "لذاتها" و ليس لأن له مصلحة في إتباعها ولذلك فقيمته وسموه
يرتبطان بالتصرف وفقا للواجبات التي يسنها عقله الأخلاقي العملي. فالأخلاق في نظر
كانت هي التي تجعلنا نسمو على الطبيعة، ونوجد في مرتبة أعلى من كل الموجودات
الطبيعية .
يقدس الفيلسوف نيتشه Friedrich Nietzsche القوة و يؤى أن القوة هي اخلاق الساده بينما
أخلاق العبيد هي ما هو متعارف علية بين الضعفاء في المجتمع فالأخلاق عنده ليست سوى
استراتيجية للدفاع عن مصالح محددة تمنع الفرد من اطلاق العنان لرغباته.
رحلة الانسان في سبيل ترسيخ مزيدا من المبادئ و القيم الاخلاقية لم
تتوقف بل زادت و تيرتها و ارتفع سقف تأثيراتها و اتسعت جغرافيا رقعة فعالياتها
لصالح تأكيد فردية الانسان المعاصر و توظيفها لتلبية متطلبات حريته و إعطاءه
حقوقه. الاخلاق هي اختراع بشري رائع خدم الإنسانية و أسس لتطويرها عبر العصور.
مهدي الرمضان
العقلانية والأخلاق
يتساءل المفكر الإيراني مصطفى ملكيان: هل من العقلانية أن نعيش بصورة
أخلاقية؟ بل، هل هناك أي فائدة من الحياة الأخلاقية؟ وهو تساؤل أساسي يهدف ملكيان
إلى طرحه والإجابة عنه.
بداية، فإن العقلانية التي يشير إليها ملكيان هي بمعنى ألاّ تزيد
"كلفة" عمل الإنسان عن "الفائدة" المرجوة من ذلك العمل. فإذا
كانت الكلفة أكبر، لن نستطيع أن نطلق على العمل بأنه عقلاني. لذلك، لا يمكن أن
تكون هناك إلا حالتان عقلانيتان: الأولى وهي التي تكون فيها الفائدة أكثر من
الكلفة، والثانية أن تكون الفائدة والكلفة متساويتين.
إذاً، يطرح ملكيان هنا حكما أساسيا، وهو أن الحياة الأخلاقية تحتاج
إلى كلفة، لابد أن تكون أقل من الفائدة المرجوة منها، أو متساوية معها. وعلى هذا
الأساس، فإن كل عمل أخلاقي من شأنه أن يتبع هذا الحكم، بل كل الحياة الإنسانية إذا
ما أرادت أن تكون أخلاقية، عليها أن تستند إلى تلك العلاقة المتبادلة بين الكلفة
والفائدة. وتجارب الحياة أثبتت أن كلفة الحياة الأخلاقية عالية جدا، لذلك يجب أن
نعي في أي اتجاه ستصب الفائدة؟
يعتقد ملكيان أن محاسبة الكلفة والفائدة ترتبط بعوامل ثلاثة: الأول
بمدى ارتباط الفرد بالحياة الأخلاقية. الثاني بمسؤولية الفرد في مراعاة الحياة
الأخلاقية. الثالث بالظروف الاجتماعية التي تساهم في انتشار الحياة
الأخلاقية.
وحينما يصل الإنسان إلى استنتاج يرفض وجود فائدة ترجى من الحياة
الأخلاقية، سيضطر إلى انتخاب أحد طريقين: إما أنه يعيش بصورة أخلاقية ويتجاوز أي
نتائج متوقعة من ذلك، أو أنه يتابع عمله ويقيس بدقة الكلفة والفائدة المرجوة من
ذلك.
وحسب ما يطرح ملكيان، هناك خمس رؤى رئيسية تشرح الفائدة من الحياة
الأخلاقية، وكل واحدة منها تنظر إلى الفائدة بمعايير مختلفة.
الرؤية الأولى، والتي لها أكثرية من المؤيدين عبر التاريخ، تعتقد بأن
كلفة العمل الأخلاقي هي "دنيوية"، وأن الفائدة المرجوة منها هي
"أخروية". بمعنى أنه لا فائدة تصب في جعبة الإنسان من العمل الأخلاقي في
هذه الدنيا، بل سيتم تلقف الفوائد في الحياة بعد الموت.
هذه الرؤية تستند إلى 3 فرضيات: أ- وجود حياة بعد الموت. ب- أن طريقة
الحياة بعد الموت هي نتيجة لطريقة العيش في الحياة الراهنة. ج- أن الفائدة التي
سيحصل عليها الإنسان في الحياة بعد الموت بسبب العمل الأخلاقي، هي أكبر من الكلفة
التي يقدمها في الحياة الراهنة، ففي النص الديني "الدنيا مزرعة الآخرة".
في الرؤية الثانية، فإن الإنسان إمّا أنه لا يؤمن بالحياة بعد الموت
أو غير مبال بذلك، أو ينكر وجود دنيا أخرى أو يكون لا أدريا تجاه ذلك. ورغم أن
الإنسان في هذه الرؤية ينكر وجود الحياة ما بعد الموت، لكنه يعتقد بأن فوائد
الحياة الأخلاقية تفوق الكلفة التي يتم تقديمها. فالحياة الأخلاقية وفق هذه الرؤية
تعني وجود فوائد "فردية" في المجتمع تسمى "مطالب اجتماعية"، ويمكن
الإشارة إليها في أمثلة الثروة والقوة والمقام والشهرة والجاه. فالفرد هنا يقدّم
كلفة معينة في سبيل أن يمارس حياة أخلاقية، ومن ثَمّ يصل إلى بعض أمانيه الفردية
التي تتماشى مع ظروف المجتمع.
لكن التاريخ يشير إلى أنه: لكي نمارس عملا أخلاقيا، يجب أن لا نفكر بمفردات
مثل الثروة والقوة والشهرة و..و..و..، وأنه لابد أن نضعها خلفنا، وأن الإنتماء إلى
أي عمل أخلاقي هو بمعنى فقدان الميزات الفردية لتلك المفردات.
الرؤية الثالثة تعتقد بأن الفائدة المرجوة من العمل الأخلاقي هي
فائدة "اجتماعية"، وأنه يمكن تحقيقها في إطار ظروف المجتمع. فالعمل
الأخلاقي، وفق هذا المعنى، يساهم في تحقيق خمس ميزات للمجتمع، وهي: النظام، الأمن،
الرفاهية، العدالة، الحرية. ويعتقد ملكيان بأن هذه الرؤية تحتوي على نقاط ضعف
عديدة. فلكي تتحقق هذه الرؤية في المجتمع لابد أن يعيش جميع أفراده - وليس جزء
صغير منه - بصورة أخلاقية. أي أننا هنا سنكون أمام معضلة أساسية وهي "إما
الكل، أو لاشيء". ولو افترضنا بأن جميع أفراد المجتمع يعيشون بصورة أخلاقية،
فإن الفائدة المرجوة من العمل الأخلاقي ستكون من نصيب الأجيال القادمة ولن يتحقق
للفرد أي شيء منها. نقطة الضعف الأخيرة في هذه الرؤية هي أنه من أجل وصول المجتمع
إلى مرحلة النظام والأمن والرفاهية والعدالة والحرية، فإن العمل الأخلاقي شرط
أساسي لتحقيق ذلك، لكنه ليس الشرط الوحيد. فلو عاش جميع أفراد المجتمع بصورة
أخلاقية، لن نستطيع أن نضمن الوصول إلى تلك الميزات الخمس.
الرؤية الرابعة ترى أن الفائدة المرجوة من العمل الأخلاقي تتعلق
بالشأن الفردي. بمعنى أن الشخص الذي يعيش بصورة أخلاقية، من شأنه أن يكون مرتاحا
نفسيا ونشطا في داخله، حتى لو لم يحصل على أي مردود خارجي اجتماعي جراء سلوكه هذا.
إذاً، العمل الأخلاقي وفق هذه الرؤية له نتائج نفسية سيكولوجية، منها: الراحة
والاسترخاء والأمان الداخلي والإحساس بمعنى الحياة.
ويعتقد ملكيان بأن هذه الرؤية لها سلبيات كثيرة، وذلك لأسباب متعددة،
منها أن ذلك الاحساس النفسي بالاستقرار قد ينتهي مفعوله بعد فترة زمنية معينة مما
قد يؤثر على السلوك الأخلاقي للفرد نفسه. ثم، هل النتائج النفسية التي تمت الإشارة
إليها ظهرت بسبب العمل الأخلاقي، أم هي نتيجة لنصائح سابقة أوصت بممارسة العمل
الأخلاقي؟ بمعنى، هل الصدق يجلب للفرد الراحة والاستقرار النفسي، أم الصدق هو
بمعنى الاعتقاد بضرورة قول الصدق؟. وأخيرا، تشير التجربة التاريخية إلى أن من عاش
بصورة أخلاقية في المجتمع، لم يصل إلى النتائج النفسية التي تمت الإشارة إليها،
فالعديد من المؤمنين الصادقين قد لا يعيشون بصورة نفسية مريحة.
الرؤية الخامسة تختلف عن جميع الرؤى السابقة التي كانت ترى في العمل
الأخلاقي وسيلة للوصول إلى هدف آخر، سواء كان ذلك الهدف اجتماعيا أو كان نفسيا أو
جاء لتحقيق فائدة أخروية. فهي رؤى ارتبطت بأهداف خارجية ولم تكن تعمل لذاتها هي.
في حين أن الرؤية الخامسة ترى لذة في ذات العمل الأخلاقي، وتعتقد بأنها جذابة
بعيدا عن أي ارتباط خارجي. مثال على ذلك، أن الصدق وعدم الكذب هو عمل جذاب في
ذاته، ولا ننتظر منه مكسبا خارجيا، ولا يعتبر وسيلة للحصول على غاية أخرى فردية
كانت أو اجتماعية. فالرؤى الأربع الأولى كانت تهدف لتحقيق مطلب آخر، في حين أن
الرؤية الخامسة هدفت إلى "حب الخير" ولو لم يكن في ذلك أي فائدة ترجى.
لذا، الجواب على السؤال: "هل هناك فائدة من الحياة
الأخلاقية؟" أو "لماذا يجب علينا أن نعيش بصورة أخلاقية؟"، قد يعني
أن نودّع الحياة الأخلاقية وفق الرؤى الأربع، في حين نستطيع أن نتأمل العيش بصورة
أخلاقية، وفق الرؤية الخامسة، حينما نمتنع عن اعتباره وسيلة، بل حينما نعتبره هدفا
في ذاته.
فاخر السلطان
اﻷخلاق وردود اﻷفعال
كلمة أخلاق إنما هي صيغة مفرده وهي كذلك تأتي بصيغة الجمع
والجمع خلق بضم ال خ والجمع يعبر عن مجموعة من صفات الفضائل وهي في اﻷصل طبع
وسجية متأصلان في البعض دون اﻵخرين والخليقة صفة لمفردة كالكرم مثلا يتصف به بعض
من كل وذلك كما وردت في قصيدة زهير ابن أبي سلمى ثالث شعراء وحكماء العرب في
الجاهليه في قوله،
ومهما تكن عند امرء من خليقة ،،،،،وإن خالها تخفى على الناس تعلم
على أن اﻷخلاق وبصفة عامة هي كل فضيلة لاتشوبها أي رذيلة،،و
اﻷخلاق تشمل الضمائر واﻷقوال واﻷفعال المحمودة والممدوحه في اتفاق وإجماع جماعي من
مجتمع له خصائصه المعتبرة والمقرة من عادات وتقاليد وأعراف سواء كان
هذا المجتمع ذا دين أو غير معتقد بدين سماوي أو أي معتقد أرضي كالبوذية أو
الكنفوشية أو الهندوسيه أو غيرهم ،،ولذلك يختلف التفسير في معنى اﻷخلاق بين مجتمع
وآخر قولا وممارسة،،على أن عقل اﻹنسان اﻷول ابتداء وبعد التكاثر
البشري بدأ بفطرته يقبح ويحسن في عمل كل قول أو فعل يقوم به هو أو يصدر من غيره
كالتغوط بين الناس وأمامهم وعدم ستر ماسمي بالعورة لاحقا اعتبره قبحا وعندما
ستر العورة أعتبر ذلك حسنا ،وللتوضيح أن ما تستسيغه عيناه أو أذناه حسنه وما
تنفران منه قبحه،،وبمثل ذلك بدأ التحسين والتقبيح يتطور ،وذلك قبل الرسالات
السماويه،،إذا اﻷخلاق وبصفة عامة هي دلالات واستنتاجات عقلية ظرفية يمهرها أي
مجتمع بالقبول أو الرفض ،على رغم أن الحكماء وواضعي الدساتير المنظمة لحياة
الناس ومنظري مجموعة القيم المندرجة تحت مسمى الفضيلة أو بشكل أعم اﻷخلاق
جهدوا في ترسيخ الفضائل والقيم اﻹنسانيه والتي صنفوها تحت إسم اﻷخلاق وذلك
بتصنيفهم ماأسموه بالرذائل والمنكرات التي اتفقت المجتمعات على رفضها ونكرانها
حيث وضعو لكل خليقة رذيللة تقابلها كالصدق فضيلة والكذب رذيله ،،،الوفاء
بالعهود والعقود والخيانه ،الرضى والقبول في الزواج واﻹغتصاب والكرم والبخل
والشجاعة والجبن ،،، وكثيرة لايسمح المقام بحصرها ،،،،حيث وضع هؤلاء الحكماء
روادع وزواجر لكل رذيلة لكي يبعدوا الناس عن ممارستها مع بيان ماتشكله من
ضرر على النفس أو على اﻵخرين ،،وما شريعة حمورابي إلا خير دليل على حاجة وضع
الحكيم والفيلسوف حمورابي هذه التصانيف الضميرية والقولية والفعلية لﻷخلاق
وكذلك وضع العقوبات ضد من يخالف هذه القوانين القيميه
واﻷنبياء والرسل الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى ماهم إﻻ مقومين
للسلوك اﻹنساني واﻷخذ به إلى أعلى مراتب الفضل والفضيلة و مكملين لما أتى به
الحكماء وكذلك لما هو أهم من ذلك ألا وهو تعريف البشر بأن كل فضيلة تدخل من ضمن
العبادات التي يتقرب بها اﻹنسان إلى الله وأن كل فعل لفضيلة إنما يستحق فاعلها
الثواب وأن كل مرتكب لرذيلة يستحق فاعلها العقاب ،ليس كل ذلك في الدنيا إنما يحصل
ذلك في اﻵخرة فالثواب يمثله الجنة والعقاب يمثله النار ،،،من هنا يتبادر سؤال عن
ماهية تعريف اﻷخلاق وهل اتفقت اﻷمم خارج نطاق الدين أو ضمن إطاره أو حتى ضمن دائرة
العقل أو خارجها لما يمثله هذا المصطلح من سلوكيات ؟
بالطبع لم يحصل هذ اﻹتفاق إلا في بعض السلوكيات التي تتصل باﻹنسان
ذاته والذي يدخل في منظومة ما اصطلح عليه بالظلم النفسي والجسدي وبكل أبعاده
في الممارسة الصادرة على المظلوم من الظالم وينتج عنه القمع والقهر واﻹقصاء
واﻹستبداد سواء من فرد أو مجتمع أو نظام حكم وقع ذلك من فرد أو مجتمع أو طائفة أو
أقلية عرقية وكل هذه تفاصيل أسست لها منظمات حقوق اﻹنسان وأقرتها معظم
الحكومات في كل العالم وهي تدافع عن أي مجتمع يتعرض لهتك حقوقه السياسية والدينية
والمدنية {اﻹجتماعية واﻹقتصاديه}
أما مفهوم اﻷخلاق من المفهوم التشريعي في فقه الديانات وفي كل دين
فإنه لا شك أنه لا خلاف ولا اختلاف على تعريف هذه المنظومه حيث تركز المفهوم
بمصطلحين هما {الحق والباطل} إلا أن ما وقع فيه اﻹختلاف فهو الحكم الفقهي في
العقوبه،،، أما إجتماعيا فقد شطح الفهم لحد التباين الشديد وباﻷخص بين الشرق
والغرب ولا أقصد هنا الشرق المتدين أو الغرب المنحرف ﻷن اﻹختلاف خارج ذلك ،،،وهنا
على سبيل المثال ما يترتب على جسم المرأة من أحكام وكونه حسب المعتقد الديني {
عورة} وعليه ما يجب وما لايجب بل وأشد من ذلك ماهو حرام وما هو حلال ،إلا أن
جميع الديانات ترى وجوب الستر وإن مايخالف ذلك خرق لنظم اﻷخلاق التي تتصل
بعفة المرأة وكرامتها وربما نتج ذلك من تقديس المرأة في بعض الحضارات حتى أصبحت
المرأة آلهة للحب وللجمال وللرياح وللنماء وغير ذلك ،لكنه في الطرف
اﻵخر و بالمعنى اﻹصطلاحي فإن جسد المرأه لم يلاقي هذا اﻹهتمام بل وينظر إليه نظرة
تخرجه من دائرة إهتمامات الرجل والتعري على شواطئ البحار لم يكن خادشا لهذه
المنظومه ولا حاطا من كرامة المرأه وليس لجسدها ما يتصل بالعفة ،،وكذلك
العلاقات بين الرجل والمرأه بما وضع لها من ضوابط كالعمر واﻹتفاق والتوافق
وكالمثلية واحتساء الكحول وتعاطي المخدرات في بعض الدول اﻷوربيه أو الترخيص لبيوت
الدعاره،،فإن كل هذا لايعد ولا يعتبر منقصة أو رذيلة تتنافى مع منظومة اﻷخلاق،
بعد ذلك أود أن أطرح سؤالا، هل اﻷخلاق مرتبطة بأزمنة وأمكنة محدده أم
أن اﻷخلاق يجب أن تمارس في كل اﻷزمنة واﻷمكنه؟
وهل اﻷخلاق تتراجع أو ربما تتبخر مع ردود اﻷفعال؟
أظن أنه لﻹجابة على هذين السؤالين لا بد أن نعرف العقل المدرك لابد
له أن يتفاعل حسب الظرف المكاني والزماني واﻹجتماعي وكذلك حالة الفرد اﻹقتصادية
والتعليمية وهي عناصر تفرض على اﻹنسان تغيرا لا إراديا في المزاج وحدته
ارتفاعا ونزولا وكذلك في طبيعة التعامل تفكيرا وإدراكا وبالتالي يترتب على ذلك نوع
ردة الفعل من الفرد مع العوامل اﻷخرى سواء في داخل بيته وبين أسرته أو بين
مجتمعه،،قد تكون كل أو بعض هذه العوامل صادمه،كأن يكون الفرد نفسه في حالة ليست
بالمستقيمة أو أن الزمان شديد الحراره أو بالعكس أو المكان غير مناسب لهذا
الفرد أو قد يكون عكس ذلك وكذلك ينطبق هذا على المجتمع ،،،هنا هل سيتعامل هذا
الفرد بما كان يتعامل به من أخلاق في ظروف طبيعيه،،،ثم هل سيتعامل هذا الفرد في
موقفين سالبين متشابهين تماما صدر أحدهما من والده واﻵخر من فرد لا يعرفه بنفس ردة
الفعل،،لا أظن ذلك ،،إن ردود أفعالنا دائما ماتكون حسب المواقف الزمانية والمكانية
واﻹجتماعية واﻷنظمة المنظمة لكل علاقة فرجية أو اجتماعية ،وليس أدل على ذلك
أننا نكون في غاية اﻹنضباط عندما نسافر لدول أجنبية ،فإننا هناك نحترم أنظمتهم حتى
أننا نصادق البيئة بعدم رمي مخلغات منافض سجائرنا من سياراتنا مرورا باحترام أنظمة
مرور النشاة واحترام المرأة التي تسبح في البحر ولا ننظر لها كعوره بل ننظر
للقوانين التي تحمي الطريق والمارة والمرأة
إن معنى ذلك أن اﻷخلاق مرتبطة بمواقف عديدة قد تعلو وقد تنخفض ولكل
فعل ردة فعل فأخلاقنا هي نتيجة ردود أفعالنا إلا من رحم ربي من أتصف بالحلم
والعلم وكمال اﻹدراك
عبد الله محمد بوخمسين
صاحبي البوذي و صديقي
المسلم
شاءت الأقدار أن تجمعني
بصاحب بوذي في مدينة Sacramento عام 2012 م ، وكان الهدف من لقاءاتنا هو تولي
مهمة مراسلة الجامعات الأمريكية للحصول على قبول جامعي بملغ و قدره 500 $ .. انتهت
المهلة و لم يتمكن صاحبنا من توفير القبول فما كان منه إلا أن أرجع المبلغ كاملا
بدون لف او دوران، فاقترحت عليه أن يأخذ من المبلغ قيمة مراسلاته فأبى وقال ( it is not my way) اي ليست هذه طريقتي في التعامل .. فأكبرت فيه هذا الموقف و ذهلت
من جمال أخلاقه !! . على الضفة الأخرى جمعني مشروع استثماري صغير بشاب مسلم
فجرى الاتفاق على تسليمه رأس المال ليقوم باستثماره و تسديده مع جزء من
أرباحه بنظام التقسيط و بعد انتهاء المهلة المحددة في العقد المبرم اتصلت به ليقوم
بإرجاع ما تم الاتفاق عليه فما كان منه إلا ان راوغ مرة تلو الأخرى حتى انتهى به
المطاف إلى مغادرة البلد نهائيا ، وقفت حائرا و مندهشا و متسائلا :
1- لماذا لم يؤثر
الموروث الوعظي في صاحبنا المسلم في حين لم يحتاجه الآخر البوذي ؟
2-هل الأمانة قيمة حسنة
في ذاتها أم هي حسنة لأن الدين زينها و زكاها ؟
3-هل العبقرية
الأخلاقية ضرب من الخيال ؟
4-هل كل متدين خلوق و
هل كل خلوق متدين ؟
5-ماذا يهذب الإنسان ؟
سأجيب هنا على بعض
الأسئلة و أترك الباقي للقارىء يبحر فيها متأملا . يقول الإمام علي عليه السلام (
قصم ظهري اثنان : عالم متهتك و جاهل متنسك ) . و هنا إشارة ضمنيّة تشير إلى أن
المتنسك ليس بالضرورة أن تنعكس أوراده و عباداته على أخلاقه و تعاملاته مع الآخر
فالجهل بالحقوق طريق للإخلال بها و العالم قد يكون متهتكا بها أيضا.
أما عن الطريق الأجدى و
الأنجع لتهذيب الإنسان فأظن أن ذلك ينطلق من التعريف القائل بأنّ الأخلاق ( شبكة
قيمية تهذب الإنسان في نفسه و مع الله و في علاقته مع الآخر ) ، فالمنظومة القيمية
هنا لها 3 مستويات :
1- القيم الذاتية
(النزاهة، الطهارة الذاتية ، الجدية ،الأمانة).
2-القيم الاجتماعية
(الاحترام ، الحرية، العدالة ،التعاون، الكرم، البر).
3- القيم
الدينية(التقوى ، الإخلاص، العبادة ،الخوف من الله ).
و لكي تتجسد هذه
الأطر الأخلاقية على أرض الواقع و ننقلها من التنظير إلى التطبيق و من الأفكار إلى
السلوك فإننا بحاجة إلى سلة من الأدوات و ليس أداة واحدة و من أبرزها ( الالتزام
القيمي الذاتي ،الهيبة القانونيّة ، الخطاب الاجتماعي ،البرامج الإعلامية و
التربوية ،التثقيف الحقوقي ،استثمار الفن بكل وسائله و أدواته المعاصرة ) ، مضافا
إليها النظر إلى الآخر من خلال البعد الإنساني أولا و استحضر هنا موقفا ملائكيّا
لعلي عليه السلام ( ما مضمونه) حين رأى يهوديا في وضح النهار مستعطيا للمال فقال :
ما هذا ؟ فقيل له : إنه يهودي .فقال : لم اقل من هذا ؟ بل قلت : ما هذا ، في إشارة
واضحة منه بان هوية الشخص الدينية لم تشغلني بل شغلتني حالته الانسانية و هكذا
ينبغي أن ننظر للآخر في تعاملنا من خلال المنظار الانساني قبل المنظار الفئوي
. كما أن العامل الديني ايضا _ كأحد العوامل _ له صلة وثيقة باخلاق الإنسان
حيث تشير الدراسة التي قام بها PEW RESEARCH CENTER في 40 دولة على مستوى العالم إلى أن الاعتقاد
بالإله (BELIEF IN GOD) يمثل عاملا ضروريا في الإطار الأخلاقي عند بعض الشعوب ،ففي مصر
على سبيل المثال يعتقد 94% من المصريين أن الاعتقاد بالإله ضروري لكي تكون خلوقا
بينما 4% لا يرون ذلك .
بعد هذا كله ، أخلص إلى
نتيجة مفادها :
أن الشبكة القيميّة من
الأخلاق تحتاج إلى شبكة من الحلول العملية لكي تضيء و تورق و تُسعِد و نَسعد بها .
يحيى ناصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق